شعار قسم مدونات

آلات التحقق في أميركا.. سلاحٌ صامت يتربص بالمهاجرين

BLOGS الأخ الأكبر

لعل أكثر ما يثير الرعب في الولايات المتحدة الأميركية في سياسات اليمين المتطرف المتمظهر بالرئيس دونالد ترامب، هو ترجمة التحريض العنصري ضد الملونين والمهاجرين والمسلمين إلى ورشة تجسس داخلي كاملة قوامها كاميرات المراقبة وآلات التحقق من الوجه التي تقوم وزارة الأمن الداخلي بنشرها على أراضي الولايات المتحدة. في الأشهر القليلة الماضية ارتفعت اللهجة الاعتراضية ضد تفاقم ظاهرة نشر كاميرات التحقق في المدن والمرافق الأميركية. هذه الكاميرات يتركز نشرها على طول الحدود الأميركية المكسيكية، وبدأت تشغل بال الصحافة الأميركية وتلقى اعتراضاً شديداً.

في الأسبوع الأول من تموز/يوليو، فرض ناشطون على المشرعين في الكونغرس الاستماع إلى مخاوفهم، في محاولة منهم للتحقيق في تصرفات وزارة الامن الداخلي التي رأوا فيها انتهاكاً صارخاً لخصوصية الأفراد. يتذرع جهاز أمن الحدود الأميركي بحجة الأمن القومي للحفاظ على كاميراته التي يقول إنها تكبح تدفق المهاجرين إلى الأراضي الأميركية. ولكن خلف هذه الكاميرات المصحوبة بمبررات يراها البعض منطقية، حالة مسح رقابي تغزو أميركا التي يؤرقها شبح نظام أمني يتماهى مع نموذج الرقابة الرقمية الذي تفرضه الصين على شعبها، وهو ما لم تتعرض له أميركا أو تتعود عليه، وتدأب جهات حقوقية على مقاومته، وقد نجحت قبل شهرين في حظره في ولاية كاليفورنيا حين أصدرت محكمة الولاية قراراً يحظر استخدام كاميرات التعقب داخل حدودها.

تشكل تقنية التحقق خطراً على حركة المهاجرين. ويأتي خوف الناشطين والمنظمات الرقمية من التقنية لما تمثله أولاً من رقابة لا متناهية تشبه إلى حد بعيد ما تفعله الصين مع شعبها، بالإضافة إلى تنامي نوعٌ آخر من الخوف سببه طبيعة البيانات

وواجه مسؤولون من الأمن الداخلي الأميركي في جلسة تحقيق في مجلس النواب انعقدت في التاسع من تموز/يوليو، وابلًا من الأسئلة حول صلاحية وزارتهم في استخدام تقنية التحقق من الوجه عند نقاط التفتيش الحدودية وما يترتب عليها من أضرار جسيمة على حياة المهاجرين والنساء وأصحاب البشرة الملونة. هذه الجلسة لن تكون الأخيرة وسيعقبها المزيد من السجالات الساخنة بين المطالبين بوقف العمل بآلات التحقق من المنظمات الحقوقية التي تلقى دعم الحزب الديمقراطي من جهة، وبين السلطات الأمنية المدعومة من البيت الأبيض والحزب الجمهوري من جهة أخرى. فخلال جلسة الكونغرس برر مسؤول في الوزارة استخدام تقنيات التحقق المنتشرة عند الحدود، وأكد على اقتصار مسحها البيومتري على وجوه المهاجرين بينما يقوم مكتب الجمارك وحماية الحدود بحذف صور الأميركيين بعد 12 ساعة.

القلق من استخدام تقنية التحقق عند النقاط الحدودية عبّر عنه النائب الديمقراطي بيني تومسون، الذي طرح أثناء الجلسة أسئلة عما إذا كانت الوزارة قد تخطت صلاحياتها، وشدد في كلمته على ضرورة الاستماع إلى الرأي العام الأميركي قبل نشر هذه التقنيات بشكل أكبر، خصوصاً وأن الوزارة نشرت قبل أشهر قليلة تقنية تحقق ما زالت في طور التجريب، سيكون عملها فقط التدقيق في وجوه المهاجرين الوافدين إلى مناطق الجمارك ونقاط التفتيش الحدودية. ما قاله تومسون مَثَل وجهة نظر أميركيين شكلوا قبل أيامٍ من انعقاد الجلسة، تحالفاً ضم منظمات تعنى بالخصوصية والحريات المدنية وناشطين بارزين في ميدان الحقوق الرقمية، ومركز معلومات الخصوصية الإلكترونية، ومنظمة الكفاح من أجل مستقبل الحقوق الرقمي، وأصدروا بياناً أكدوا فيه على أن "استخدام تقنية التعرف على الوجه من قبل وزارة الأمن الداخلي يهدد الخصوصية والحريات المدنية". 

تشكل تقنية التحقق خطراً على حركة المهاجرين. ويأتي خوف الناشطين والمنظمات الرقمية من التقنية لما تمثله أولاً من رقابة لا متناهية تشبه إلى حد بعيد ما تفعله الصين مع شعبها، بالإضافة إلى تنامي نوعٌ آخر من الخوف سببه طبيعة البيانات التي يستند عمل التقنية عليها، خصوصاً وأن الولايات المتحدة يرافق تاريخها حقبة طويلة شهدت على عنصرية البيض ضد السود والملونين والنساء، وتستند الأجهزة الامنية إلى بيانات تلك الحقبات في الحوسبة الرقابية، ففي أكثر من مرة أثبتت برمجيات التعرف عجزها عن التعرف على أصحاب البشرة الملونة ذلك أن بيانات آلاتها تم تدريبها على الوجوه البيضاء.

معالج بيانات ترجيحي.. الخطر القادم

هناك أنواع عدة من آلات التحقق، وأهمها تلك التي تعمل على التعرف على الوجوه عبر المسح البيومتري الذي يقوم بمطابقة الصورة التي تلتقطها آلة التحقق مع الصورة الرسمية المرفقة مع كامل البيانات الرسمية. في هذا التقنية يعمل الذكاء الاصطناعي على فرز البيانات وتنظيمها وتحديد نوعها وانتماءها إلى كل شخص على حِدَى، بينما النوع الثاني من آلات التحقق وهو أكثر خطورة فيمتلك "آلة التعلم العميق الترجيحية"، ما يخولها تقديم وجهة نظر استباقية عن شخص محدد، كأن تستنتج اعتباطياً أن الشخص الذي يمتلك أنفاً عريضاً وعينان ضيقتان، لديه محفزات على اقتراف جنح أو لديه مقومات بيومترية تشبه اللصوص. وأميركا الأقوى في صناعة الذكاء الاصطناعي تمتلك معالج بيانات ترجيحي يتصل بآلات التحقق ومُلقن بصور ومعلومات عن المجرمين والإرهابيين والمخالفين للقانون. يعمل معالج البيانات على مطابقة التفاصيل البيومترية بين المجرمين لإصدار ترجيحات تجاه أشخاص يمتلكون نفس المزايا البيومترية.

لا قدرة لأحد الآن على استشراف نتائج اعتماد الشرطة الحدودية تقنية التعرف على الوجه ومعالج البيانات الترجيحي وهي تقنيات تعتمدها الدول المتقدمة لتخمين ماهية الأشخاص المحتمل أن يشكلوا خطرًا أو يتحولوا إلى مصدر إزعاج أمني. لنفترض أن رجلاً أسمر وصل إلى نقطة تفتيش حدودية، لنفترض أيضاً أن ملامح وجهه تطابقت مع قاعدة بيانات بيومترية تعود لأحد المجرمين. حينها قد تمنعه قوات التفتيش الحكومية من دخول البلاد، لأن معالج البيانات توقع أن هذا الرجل الأسمر يشكل خطراً. ولكن ماذا لو كان هذا الرجل بريئاً من التهم الافتراضية التي اختلقها معالج البيانات.

هذا السؤال لم يعد افتراضيًا في حالات استخدام اللوائح الإسمية بعد هجمات 11 أيلول 2001. كثيرون من الأطفال والأبرياء جرى توقيفهم في المطارات أو منعوا أساسًا في أوروبا، من الصعود إلى طائرات متوجهة إلى أميركا بسبب تشابه الأسماء. كذلك عانى المئات من العرب والمسلمين الأميركيين من ورود أسماء مطابقة لأسمائهم على لوائح حظر السفر واضطروا إلى هدر الكثير من الوقت والمال لإثبات عدم صلتهم بالأشخاص المدونين على اللوائح الأمنية.

وإذا كانت اللوائح الإسمية التي يفترض منطقيًا أن حاملها من أجهزة الأمن يعرف أن طفلًا عمره سبع سنوات لن يكون مطلوبًا بقضايا إرهاب أو أن طبيبًا أو مهندسًا من المولودين أو العاملين في أميركا ليسوا أنفسهم المطلوبين في لوائح تضم آلاف الأسماء المشبوهة قد تسببت بعرقلة تنقلات ومنع مئات من الأبرياء من السفر أو العودة إلى أميركا وتكبدوا المشقات والتكاليف لتنظيف أسمائهم، لن يكون الأمر أسهل مع الات صماء تفرز وتحلل المعطيات الواردة من الكاميرات ولن يكون مستبعدًا أن يقع الألاف من المواطنين والمقيمين الشرعيين وحتى المهاجرين الشرعيين ضحية الكاميرات التي يتحمس لها ترامب وترضي الأكثرية العنصرية من قاعدته الشعبية، خصوصًا وأن المعلومات التي ستصدر عن البيانات البيومترية ستتمتع بـ"مصداقية" تقنية حتى يثبت العكس وستقلب مفهوم دليل البراءة رأسًا على عقب وسيكون على البريء إثبات براءته أمام الآلات المعبئة بخوارزميات لم تتم معالجتها بالشكل الصحيح لإصدار أحكام اعتباطية بحق المهاجرين والملونين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.