شعار قسم مدونات

هل سيفنى المجتمع السوري ويغدو قصة من التاريخ؟

blogs سوريا1

منذ العام 2012 لا يفتأ أحد الصيادلة الحلبيين يروي عن صديقه العلوي أن بشار الأسد جمع في ذلك العام (المجلس العلوي الأعلى) وأخبرهم أن الحرب التي يقودها في سوريا نتيجتها محسومة لصالحهم، وأن عليهم ألا يخشوا شيئا، فقط ليقفوا خلفه بشبابهم وأولادهم، لأن أصدقاءه قد أخبروه بأنهم معه، وأن على الحرب ألا تتوقف في سوريا حتى يتم تهجير عشرة ملايين (كلب سني) بحسب تعبير بشار الأسد ذاته. إلى هنا تنتهي القصة، قد تكون حقيقة وقد تكون نسج خيال، ومهما يكن فإنها تحكي تفاصيل الواقع التي لا نستطيع نكرانها.

 

إن الشعب السوري يتم إفناؤه حقا وبطرق مختلفة وقد تم تدمير عشرة ملايين أو أكثر بقليل بطرق مختلفة بالقصف والمقابر الجماعية والمجازر والأسلحة الكيماوية والسجن، والتهجير تلك المقصلة التي تقتل السوريين كل يوم، ويزيدها قسوة استجلاب شعوب مختلفة لتقيم في أرضه! نعم إنها الحقيقة يتم إفراغ سوريا بمنهجية بالغة، ويشارك في ذلك أعتى دول العالم روسيا وإيران وحزب الله وميليشيا الأسد والكثير من الحلفاء السريين من دول عربية وأجنبية. فهل سيفنى الشعب السوري حقا؟ وهل سيأتي اليوم الذي يقال فيه كان هناك شعب ذو تاريخ وحضارة وامتياز في العمل والفكر والثقافة اسمه الشعب السوري، وقد قامت روسيا القيصرية بمعونة عملائها وحلفائها بإفنائه؟

 

شعب سوريا بأعراقه المختلفة ليس بدعا من هذه الأمم الباقية منذ مطلع التاريخ، فهو أحدها بل قل من أعرقها وأعظمها حضارة وأكثرها بركة منذ هبط نوح عليه السلام وأولاده على جبل الجودي
التاريخ يجيبنا

لا يمكننا أن نجد الجواب على هذا التساؤل إلا في التاريخ.. إن التاريخ كتاب مفتوح وفيه من التجارب البشرية وعبرها ما يروي نهم الإنسان وتطلعه إلى استشراف المستقبل.. ولا بد لاستخلاص تجربة التاريخ من مقدمات.

– أولا: إن الشعب السوري من الشعوب البشرية القديمة الموغلة في الحضارة والتاريخ، وقد مرت عليه نكبات عديدة، وإن كانت لا تصل إلى فظاعة ما يتعرض له اليوم من إفناء وتهجير، ومع هذا بقي ولم يفنَ.

– ثانيا: إن الشعب السوري أمة بشرية صغيرة الحجم مقارنة بالأمم الأخرى، وأرضه مسرح للصراع العالمي منذ فجر التاريخ نظرا للمركزية الجغرافية التي تتمتع بها، ولكن معظم نكباته تصيبه من داخله، فكلما ضعفت عناصر المقاومة الذاتية فيه غدا ضحية لصراعات الأمم الكبرى، وكلما تغلب عليها ساد على أرضه وتفادى الصراعات عليها.

– ثالثا: إن الشعب السوري اليوم -علاوة على المؤامرات الدولية عليه- يعاني من أمراض ذاتية مخيفة تهده الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ تم زرع آلاف الأمراض المستعصية في بنيته في عهد سلطة آل الأسد لكيلا يتمكن من النهوض في وجه الطغيان الذي كان يتسلط عليه، وقد كشفت الثورة السورية هذه الأمراض وعرَّتْها.

 

إن هذه المقدمات الثلاث هي ما يوصِّف ماضي الشعب السوري وواقعه ومستقبله. إنه أمة بشرية عريقة مصابة بالأمراض وستشفى لأن عناصر التجدد موجودة فيها، ولكن أمد الشفاء سيطول ويقصر بمقدار سرعة اليقظة وبطئها، إن من المسلَّم به أن علاج الأمراض المستعصية فردية كانت أو اجتماعية يحتاج مدة طويلة ومراحل عدة حتى يتماثل المريض في نهايتها إلى الشفاء إن كان قابلا له. وإن الشعوب الأصيلة التي قُدِّر لها البقاء على مر الدهور وكر العصور؛ تمرض وتهزل حتى إذا ما وصلت إلى حافة الموت تنبهت عوامل البقاء الموجودة فيها فأيقظتها من سكرتها وأحيتها من جديد لتبحث في مكمن دائها وسر دوائها، حتى إذا وجدَتْه تجرعته بصبر وإصرار حتى تقف على قدميها وتعود إلى الحياة كما كانت أو أقوى من ذلك بكثير.

 

إن العلاج الاجتماعي مر وطويل، وإن على المصلحين العاملين على توصيف أمراض الشعب السوري والبحث عن سر شفائه ألا ييأسوا باستعجال النتيجة وطول مدة الاستشفاء وضعف الاستجابة للعلاج، فإن الأمم الساعية إلى الحضارة لا تعود من حافة الفناء إلى ميدان الحياة كاستقامة السهم أو انطلاقة الرصاصة لا تلوي على شيء، وإنما تعود بادئ أمرها بخطى متعثرة تتردد بين الموت والحياة أزمانا، تدفعها عوامل البقاء للنهوض وتشدها أجزاؤها المتهالكة إلى لذة الفناء وراحته فتمكث سنين لا تلبث أن تلج باب الحياة حتى تجد نفسها على شفا جرف الموت، وهكذا دواليك حتى تتخلص من أجزائها التالفة وتلحق بركب الحياة بثوب جديد، وما إن تدخله بجيل فتي محب للحياة حتى تسابق باقي الأمم فتتقدمهم أو تكاد، كل أمة وشعب بمقدار ما يحمل من صفات أو مورثات حسية ومعنوية وموقع جغرافي.

 

إن شعب سوريا بأعراقه المختلفة ليس بدعا من هذه الأمم الباقية منذ مطلع التاريخ، فهو أحدها بل قل من أعرقها وأعظمها حضارة وأكثرها بركة منذ هبط نوح عليه السلام وأولاده على جبل الجودي وانتشروا في دنيا الله فتكاثروا فيها وعمروها، شعب فيه كل أسباب البقاء والازدهار والعطاء، قاوم الفناء مرات كثيرة في تاريخه وأصر على التشبث بالحياة والاستمتاع بجمالها إلى الحد الذي لم يسبقه إليه أحد، غزته جحافل لا تحصى من الجيوش والقادة الطغاة فزالوا كلهم كأنهم لم يكونوا وبقيت بلاد سوريا الوطن وبقيت شعوبها كما هي بخصائصها الساميَة كأن لم تر حربا بالأمس.

 

وإن ما يصيب الشعب السوري اليوم نوع من محاولة الدفع إلى الفناء ولكن عوامل البقاء فيه تتحرك من جديد لتعيده إلى الحياة بكل معانيها. نعم التاريخ يقول بأن الشعب السوري سيبقى كما سيفنى جلادوه، ولكن كلما تعجل قادته المصلحون بعلاج أمراضه كلما تجاوز مرحلة القهر واللجوء التي يعيشها أسرع.. ويبقى ذلك برسم عقلاء هذا الشعب كيف يحددون أمراضه، كيف يوصفونها ويعالجونها ويعيدوا شعبهم إلى حالته الطبيعية كشعب قادر على الاجتماع وتدبر أمره وبناء حضارته وفق خصائصه الاجتماعية والعرقية والدينية التي ميزته عبر التاريخ وستميزه أبد الدهر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.