شعار قسم مدونات

بفوز ترامب الثاني.. هل سلمت بريطانيا مصيرها لليمين المتطرف؟

BLOGS بوريس جونسون

على حبالٍ مشدودة وصل بوريس جونسون إلى 10 داوننغ ستريت قادماً من معسكر الشعبوية العنصرية المتطرفة التي تجتاح القارة العجوز، بعدما أطاحت الإخفاقات المتلاحقة في إدارة ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "البريكست" بتريزا ماي ودافيد كاميرون من قبل؛ لتدخل بريطانيا مرحلة صعبة من الانقسامات الداخلية، والتحولات الجيوسياسية في علاقتها مع أوروبا، والعودة مرة أخرى للانزواء خلف الاستراتيجيات الأمريكية التي ألقت بذور التشرذم والشقاق في أرجاء العالم، وأوصلت الولايات المتحدة إلى حالة من العزلة الدولية.

 

من خيمة الشعبوية المتصاعدة في بريطانيا نجح بوريس جونسون في حصد أصوات حزب المحافظين لصالحه؛ ليفوز بزعامة الحزب ورئاسة الوزراء التي لطالما حلم بها خلال مسيرته الإعلامية والسياسية، وحملاته الدعائية ضد بروكسل مستغلاً حصيلته الشكسبيرية وقدراته الخطابية في تلفيق الأكاذيب، ونشر الأرقام المضللة؛ لتوسيع المعسكر الرافض لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والقبول بأي قرار ينهي وجودها داخل حزام اليورو حتى لو كان ذلك بلا تسوية.

 

دونما اكتراث لما يترتب على قرار البريكست من مغامرات سياسية غير محسوبة، وهزات اقتصادية باتت في حكم اليقين، وانقسامات جذرية محتملة يصر ترمب بريطانيا الغارق في الفانتازيا والبهلوانية على تنفيذ تعهداته التي قطعها على نفسه بخلع بلاده من سياقها الجيوسياسي قبل الحادي والثلاثين من أكتوبر المقبل حتى لو تطلب الأمر تعطيل البرلمان الذي اتخذ قراراً يحظر على رئيس الوزراء الذهاب إلى البريكست بلا تسوية، وانفضاض الوزراء من حوله، وحدوث هزات تركيبية عميقة داخل حزب المحافظين قد تفضي إلى الإطاحة بجونسون وحكومته والذهاب لانتخابات مبكرة.

 

لا يلتقي ترمب بريطانيا والولايات المتحدة عند حدود تصفيفة الشعر ولون البشرة وملامح الشخصية وحسب، ولكن في الكيمياء السياسية والتوجهات الجيوستراتيجية، وطبيعة العلاقة مع الأطراف الأخرى. فكلاهما لديه نزعات قومية عنصرية مفرطة تُقذّر الأعراق الأخرى؛ لاسيما المهاجرين المسلمين، وداكني البشرة الوافدين من القارة السمراء الذين يعتبرونهم عنصراً دخيلاً على بلادهم ومتغيراً يلوث النقاء العرقي والثقافي. وقد سبق لجونسون وصف المسلمات المنقبات بصناديق البريد ولصوص البنوك، وجعل من روايته المبتذلة "72 عذراء" سلاحاً لمهاجمة الإسلام ووصمه بالعنف والتطرف، وحصر غاية المقاتلين المسلمين في إراقة الدماء المدفوع بوعود الجنس الجماعي في الجنة، وأرجع تخلف البلدان الإسلامية عن الركب الحضاري إلى الإسلام ذاته الذي ما زال قوي البنية في البلدان الإسلامية ويحظى بالقبول والتقديس.

   

   

كذلك فإن كلاً من الزعيمين لديه مشكلة كبيرة مع المؤسسات التشريعية في بلاده، ويكن العداء لخصومه السياسيين، ويحاول تعطيل القوانين التي يعتبرها معطلة لنزعاته الشعبوية وغرائزه الهوياتية المتطرفة، ويتقلب في المواقف المصيرية بطريقة غريبة، ولا يتمتع بالتوازن السياسي أو يمتلك أي منظومة قيم حقيقية يمكن فهمها والبناء عليها، وعلى المستوى الأخلاقي يحتفظ الرجلان بسجلٍ مخزٍ من الخيانات الزوجية، والعلاقات الغرامية، والمشاكسات العاطفية التي جعلتهم موضع ازدراء البعض وملاحقة المحاكم والمؤسسات القانونية في بلادهم، ولا يتورعون عن إطلاق العبارات الفظة والتعليقات الغليظة بحق النساء دون وازع أو مبالاة بحساسية موقفهم السياسي الذي يجعلهم تحت مطرقة الإحراج الدائم.

 

ورغم أن جونسون كما هو الحال بالنسبة لترمب مصاب بداء النكتة الرخيصة والأمانة الضائعة والسطحية وخفة الذوق والبلطجة، ويركز في سلوكه على التفاهة والابتذال والتضليل، إلا أن هذا لم يمنع قطاعاً واسعاً داخل حزب المحافظين من منحه الثقة التي مكنت الجناح اليميني المتطرف من الهيمنة على الحزب وانزواء التيار اليميني التقليدي تحت عباءة العنصرية والشوفينية التي لا تستطيع استيعاب التفاصيل والقنابل الموقوتة المرجح أن تتناثر شظاياها إذا ما أقدم جونسون على الانفصال عن حزام اليورو دون تسوية أو تفاهم.

 

قد نتفهم موقف ترمب الداعم لخروج بريطانيا من الحظيرة الأوروبية دون اتفاق مع بروكسل، وتأييده بوريس جونسون في رفض دفع الشيكات المالية المستحقة على المملكة المتحدة؛ لأنه يرى في الوحدة الأوروبية خطراً فعلياً يهدد المصالح الاقتصادية والتجارية الأمريكية، ويحول دون انفرادها بالقرار الدولي، ويخلق حالة من التوازن غير المرغوب به بين الولايات المتحدة والفضاءات السياسية القائمة، لكن من غير المعقول أن يتساوق اليمين الشعبوي المتطرف في بريطانيا مع الرؤيا الترامبية التي ترغب في تفكيك الاتحاد الأوروبي، ويدفع ببلاده إلى العزلة القارية وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية لا يحمد عقباها.

 

إن هذا الاستنساخ السياسي في 10 دوننيغ ستريت، والهجين الشعبوي للجناح اليميني المتطرف على ضفتي الأطلسي والمتغلغل في قلب القارة العجوز يجعل من مهمة بوريس جونسون شبه مستحيلة، لا في اجتراحه معادلة جديدة للبريكست ترضي جميع الأطراف وحسب، ولكن في طبيعة المقاربة السياسية التي يجب أن تتبناها المملكة المتحدة بالكثير من الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، وترميم العلاقات الدبلوماسية المتأزمة مع طهران على خلفية احتجاز بريطانيا ناقلة النفط الإيرانية، والسياسة البريطانية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية التي من المتوقع أن تأخذ منحى أكثر انحيازاً للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه التاريخية والمعاصرة في ظل تفاخر جونسون بأنه "صهيونيٌ حتى النخاع".

 

لا شك أن هذا الخطاب الشعبوي الانعزالي الذي تغذيه الهوياتية البيضاء قد حرك المياه الراكدة من جديد على مساحة شاسعة من حزام اليورو، ونفخ في وعي المجتمع الأوروبي روح الكراهية لمبدأ التعددية وسياسة البوتقة المنصهرة التي قامت عليها الأمة الأوروبية بعد حروب عالمية مرعبة، وأعاد إلى الحياة العصبيات القومية بأيدولوجية يمينية ترحب بقتل المهاجرين المسلمين وتشرعن توجيه أفواه البنادق إليهم من أجل وحدة كروموسومية جينية خرقاء للجيل الأوروبي الذي تصور له نخبه السياسية أنه يدفع فاتورة الاندماج.

 

نجحت الهوياتية الشعبوية المتطرفة في نزع الشيطنة عن كاهلها، والظهور أمام الرأي العام بصورة غير عنيفة، وتوجيه خطابها الدافئ المفعم بالوعود الرنانة للطبقات المهمشة

ذلك الاندماج الذي لا بد أن ينتهي للأبد بتسيير مراكب العودة للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين على السواء حتى لو كان ذلك من خلال مشروع تطهير عرقي ينهي وجود غير الأوروبيين، ويغلق حدود أوروبا أمام موجات اللاجئين التي لعب الغرب الدور الأكبر في تأجيجها، ثم عاد من جديد يستدعي رموز القومية العنصرية التي أزهقت أرواح الملايين من البشر.

 

فالهجرة وفق النسق الأيديولوجي والموقف السياسي المعلن للأحزاب الشعبوية المتطرفة ما هي إلا عمليات تمويه وخداع منظم لإحلال ومبادلة الشعوب داخل القارة العجوز بأجناس دخيلة وغريبة، ومجازفات سياسية وحضارية تقودها بعض الأحزاب اللبرالية المتفلتة من تاريخها والتي لا تبالي بالضياع الأخلاقي والقيمي الذي صد من أجله ملوك أوروبا وقادتها غارات المسلمين الفاتحين والتوسعات العثمانية المتأخرة.

 

بات الخطاب الشعبوي العنصري المتطرف في بريطانيا وحاضنتها الجيوسياسية " أوروبا " بوجه عام هو العنوان الأبرز لحشد الجمهور الغربي، وتفخيخه بالمواقف والمعتقدات الشوفينية التي ترفض الآخر، وتنبذ قيم الحوار والعيش المشترك للأقليات الأخرى تحت شعار النقاء العرقي ومناهضة العولمة وحماية الطبقات الهشة ومواجهة خطر الإسلاموفوبيا وهيمنة اليورو. وفي كل جولة انتخابية أو استحقاق سياسي تثبت أوروبا للأسف أنها قد أسلمت نفسها لليمين المتطرف، ولم تعد قادرة على بث روح البقاء في كياناتها الديموقراطية واللبرالية التي قامت عليها أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو المحافظة على القوى اليمينية المسيحية الكلاسيكية التي بدأت تتلاشى أمام زحف التيارات الشعبوية الجديدة التي لا تملك برامج سياسية واضحة، أو رؤيا استراتيجية تستوعب التجاذبات والاستقطابات الدولية. ومع أن مصطلح الشعبوية المحمل بالمواقف المتناقضة والمثيرة للجدل قد ظهر بقوة في استفتاء خروج بريطانيا من العصبة الأوروبية والانتخابات الأمريكية والاستحقاقات الديموقراطية في الكثير من أقطار القارة العجوز، إلا أنه عاد ليطرح نفسه بقوة في المملكة المتحدة بوصول بوريس جونسون إلى منصب رئاسة الوزراء.

 

للأسف نجحت الهوياتية الشعبوية المتطرفة في نزع الشيطنة عن كاهلها، والظهور أمام الرأي العام بصورة غير عنيفة، وتوجيه خطابها الدافئ المفعم بالوعود الرنانة للطبقات المهمشة للوصول إلى السلطة بتحريض أبناء المجتمع على بعضهم البعض، والزج بالفقراء ومحدودي الدخل في احتراب داخلي مع الطبقات الثرية لتوظيف ذلك لصالحهم في معاركهم السياسية.

 

الخلاصة، إن انحسار التيار الليبرالي والديموقراطي داخل بريطانيا وحزام اليورو على وجه العموم، وصعود القوى الشعبوية واليمينية التي كان آخرها وصول بوريس جونسون إلى 10 داوننغ ستريت ينذر بكارثة حقيقية ليست على القارة وحدها، وإنما على مستوى العالم بأسره الذي يشهد تزاحماً في أعداد المشردين، واتساع دائرة الفوضى العالمية، وغياب الدولة العائلة للمجموعة الدولية، والبلبلة الأيدولوجية التي تجتاح مؤسسات وحكومات دول العالم، وعزوف الفئات العمرية الشابة في أوروبا عن الأحزاب التقليدية. فهل تشهد الأيام المقبلة تفكك المملكة المتحدة على غرار ما حدث في جمهوريات الاتحاد السوفيتي عقب انتهاء الحرب الباردة؟ وهل يكون البريكست رصاصة البداية لقفز المزيد من أقطار القارة العجوز من سفينة الاتحاد الأوروبي؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.