شعار قسم مدونات

الأمومة تربة الإبداع

blogs أم

من تتعامل مع الأمومة بشكلها التقليدي ستجد نفسها في قبر قد أُجبرت فيه على دفن نفسها، أو في سجن محبوسة فيه بين الجدران، وربُما تجد نفسها كالآلة التي تعمل ليل نهار، فهي تقوم بنفس الأعمال كل يوم، وتلك الأعمال تتجدد كل ساعة، بل كل دقيقة، دون توقّف ودون انتهاء، وتمر أيامها دون إضافة شيء يذكر إلى حياتها، أو منفعة تعود على ذاتها، أو تَطوّر يرتقي بعقلها وقلبها، بالذات الأمومة التي لا ترتبط فيها الأم بدراسة خارجية أو عملاً ما، بل تقضي معظم وقتها في المنزل.

  

لكن لماذا كأمّهات لا نتخلّى عن ذلك النمط التقليدي المُمِل، ونحوّل أمومتنا إلى تربة خصبة للإبداع، واكتشاف الذات، وتنمية العقل، والرُقي والتقدّم بالنفس والأسرة والمجتمع والتفكير خارج الصندوق؟ وكيف سنحقق ذلك؟ هُنا لدي بعض الأفكار، ولابد وأنّ باقي الأمهات أيضاً لديهنّ أفكار أخرى، سأود سماعها والاستفادة منها كذلك.

 

أعتقد أنّ أول خطوة في ذلك هو الغوص في الذات، قد نتشابه نحن الأمهات في جداولنا اليومية والأعمال التي نقوم بها، لكن بالتأكيد لكل أم صفاتها التي تميزها عن البقيّة، لكل أم ميول معينة، وطبائع مختلفة، ومواهب متعددة، قد تكون مدفونة وتحتاج إلى النبش، هذه المواهب في الأغلب لم يتم البحث عنها خلال سنوات الدراسة وليس بالضرورة أن تُكتشف في بيئة العمل، فلماذا لا نُعطي أنفسنا الفرصة للبحث عنها واكتشافها؟، فبإمكاننا مثلاً استغلال أوقات نوم الأطفال أو انشغالهم عنا باللعب في البحث عن الذات ولو لنصف ساعة يومياً.

   

أؤمن كثيراً بالعبارة التي تقول "قليل دائم خير من كثير منقطع"، فإن بدت نصف الساعة قليلة ولن تحقق شيء، فهي ليست كذلك مع الاستمرارية، بل من شأنها أن تُحدث فرقاً عظيماً، احملي ورقة وقلم وابدئي بكتابة ما يمكن أن تبدعي وتفلحي فيه، ما كان يستهويك، وما كنتِ تمارسيه من قبل، أو تنظرين إليه من بعيد، ضعي جميع الاحتمالات، الرسم.. التسويق.. التصميم.. التدريس.. الكتابة.. التحدّث بلغات أخرى.. ستجدين الكثير من الخيارات.

     undefined

     

ثمّ ماذا؟ بعد وضع جميع الاحتمالات، بإمكانك في الأيام التالية، البحث عبر شبكة الانترنت عن تلك المجالات، ثمّ تحديد الخيار الذي تميلين إليه، للتعرّف عليه أكثر، والنظر إلى تجارب الآخرين فيه، والإجابة على السؤال الذي تطرحينه على نفسك: هل هذا ما أريد؟ بإمكانك أيضاً البحث أكثر عن وسائل عمليّة صادرة من متخصصين تعلمّك كيفية اختيار المجال، لتحددي فعلاً ما تريدين وفقاً لميولك وقدرتك والفرص المتوفرة، السؤال المهم الآن هو كيف ستطوّرين نفسك وتجدين الوقت لذلك؟

 

لحسن الحظ تنتشر عبر شبكة الانترنت الكثير من المواقع التي تحوي دورات وفيديوهات وكتب لجميع المواضيع التي قد تخطر ببالك، والكثير منها مجاني، بإمكانك الاستماع إلى محاضرة أو كتاب صوتي بينما تطبخين، ومشاهدة قصة نجاح في نفس المجال بينما تكوين الملابس، وقراءة كتاب أو مقال بينما ترتاحين قليلاً أو أثناء انتظارك في السيارة، وما يحتاج تركيز أكثر أو عمل يدوي تتركيه لوقت فراغك، أو الوقت المخصص لكِ، وإن كنتِ مثلي تكرهين أعمال المنزل الروتينية فإشغال مخك عنها بتفعيله في الاستماع إلى شيء ما آخر تميلين إليه سيخفف العبء كثيراً، وستجدي أنّكِ قد أنجزتِ الكثير دون أن تشعري، مع الاستمرارية ستتعلمين الكثير في المجال الذي اخترته، وبإمكانك بعدها تطوير موهبتك وهوايتك والبدء بمشروعك الخاص، أو العمل عن بعد.

 

الوقت قصير جداً ويجري بسرعة، والأعمال كثيرة جداً ولا تنتهي، اذاً ما الحل؟ الحل هو حسن إدارتها، أي تعيين وقت مخصص للأشياء الرئيسية للسيطرة على المهام الغير منتهية، كوقت النوم والنهوض، وتناول الوجبات، والخروج، ووقتك الخاص، وهذا الجدول مع الأيام والتجربة سيحتاج تغيير وتعديل، وضع هذا مكان هذا وهذا مكان هذا، وهكذا..، ثم اتباع جدول جديد يتغيّر أيضاً مع الأيام، وكل ذلك سيحتاج إلى مرونة أيضاً، ألا تحتاج هذه المهمة إلى تفعيل العقل وتنشيطه واتخاذ أفضل قرارات استثمار الوقت؟ طبعاً، أنتِ إذاً كأم لا زلتِ تفعلين دماغك كثيراً، وتستخدمين قدراتك في الإدارة والقيادة والتخطيط والاستثمار، وذلك جدير بإيقاظ خلايا الإبداع لديك وتنميتها، والاستفادة منها الآن ولاحقاً، بالإضافة إلى الفائدة التي ستجدينها من حسن استثمار الوقت. أنا شخصياً لا زلت متعرقلة كثيراً في مسألة تنظيم الوقت هذه، وغير قادرة على السيطرة على الأمور، ولكني لازلت أستمتع بالمحاولة.

 

الوقت الذي تخصصينه لأبنائك هو واجبٌ عليكِ، وبما أنّكِ ستقومين به على أيّة حال فلماذا اذاً لا تستمتعي به؟!، لا تلعبي معهم كأم، بل العبي معهم كواحدٍ منهم، اركضي معهم في أرجاء المنزل، سيفرح أبناؤك بذلك كثيراً، ابحثي وابتكري ونفّذي معهم أنشطة مفيدة وممتعة تحفّز الإبداع لديهم، وتبعدهم عن الأجهزة الإلكترونية، استمتعي بقراءة قصّة ما قبل النوم، فقصص الأطفال ليست مملة أبداً، ولا بعيدة عن امتاعنا، اختاري قصصاً تعجبهم وتعجبك، وتفاعلي مع القصة، ليستمتعوا بها وتستمتعي أنتِ، تربية الأبناء بشكل عام تحتاج إبداع، تحتاج البحث عن الحلول للمشاكل المختلفة التي نواجهها بصورة دائمة، فابحثي وشغّلي دماغك، وطبّقي ما قرأتيه بطريقةٍ ذكيّةٍ، ولا أظنّ أنّ هناك سعادة تلقاها الأم أكبر من سعادة رؤية نتائج تربيتها في أبنائها.

   undefined

  

استغلي إبداعك في الطبخ أيضاً، ليس كل يوم، ولكن متى ما سمحتِ لكِ الفرصة والوقت -إلّا إذا كانت هوايتك الطبخ-، اطبخي بقلبك، فوجبة جديدة لذيذة تجتمعون حولها ستدخل السرور في قلبك وقلب أفراد أسرتك، وكتب الطبخ وقنوات الطبخ على اليوتيوب مليئة بالوصفات، بإمكانك بعد كل فترة تجربة طبخة جديدة أو ابتكار طبخة، تستمتعين بتجربتها، فتناول وجبة جديدة مقدّمة بشكل جميل والاجتماع حولها من شأنه إضفاء القليل من الأجواء اللطيفة.

 

أعمال المنزل بشكل عام تبعدنا عن العبادات لأنها تحتاج إلى وقت ونحن لا نملك الوقت، لكن ماذا عن الصوم؟ الصوم لا يحتاج إلى وقت وفوائده وفضائله عظيمة، الصوم يهذّب النفس، ويريح الجهاز الهضمي، وأجره عظيم فعن أبي أمامه رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بأمر آخذه عنك، فقال: (عليك بالصوم، فإنه لا مثل له) رواه النسائي.

 

بإمكانك أيضاً استغلال وقت أعمال المنزل في حفظ القرآن، أن تقومي مثلاً في وقت فراغك بحفظ نصف صفحة يوميا، أو أقل أو أكثر حسب ما تستطيعين، بعد ذلك ترددي ما حفظتيه بينما تقومي بأعمال المنزل، تستمري بالترديد دائماً، فإن رددتِ تلك الآيات ثلاثين مرة مثلاً، لابد وأنّك ستحفظينها بصورة جيّدة جداً، بعد ذلك في اليوم التالي احفظي آيات جديدة وردديها مع الآيات القديمة وهكذا مع مرور الأيام ستحفظين الكثير من القرآن، وستكسبين أجر كل حرف قرأتِه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)، وسيعتاد أبناءك على سماع الآيات بصوتك، مما سيحببهم في القرآن وسيسهّل عليهم حفظه فيما بعد، وصدقيني سيحببك أنتِ أيضاً في القرآن أكثر وستتعلقين بكتاب الله، إنوِ أيضاً بتلك التلاوة تحصين نفسكِ وبيتكِ..

 

وفي الأخير أود أن أعطيكِ نصيحة أظنّ بأنها لن تعجبك، وهي أن تدعي وسائل التواصل الاجتماعي إن كنتِ لا تحسنين إدارتها، فهي مضيعة للوقت، وكل ما قلته سابقاً لن يفيدكِ إن كنتِ من النوع الذي يتصفح الإنستغرام كل خمس دقائق، والواتساب كل ثلاث ثواني، فإن كنتِ كذلك فهي ستقضي على وقتكِ دون أن تشعري، وستشتت تركيزك، وسينتهي يومك مملاً روتينياً دون أي فائدة أو إضافة.

 

أخيراً ربما أهم شيء قبل كل ذلك هو أن تستمتعي بكل ذلك، أن تستمتعي بأبنائك فهم زينة الحياة الدنيا، أن تستمتعي باكتشاف ذاتك وتنميها، أن تدللي نفسك بإعطائها اهتمام خاص والارتقاء بها، والتعامل معها كشيء ثمين يحوي على كنوز يجب اكتشافها، سعادتك وحبّك لذاتك سيخلق بيئة منزلية جميلة ينمو كل أفرادها بطريقة سليمة، أمّا إن كنتِ ستقومين بكل أعمال المنزل بالطرق الروتينية المعتادة، وبالتململ والشكو من الأعمال التي لا تنتهي، وبذاتك التي ضاعت، فقد تتحولين إلى امرأة نكدية لا تطاق، وتمرّ أيامك دون شيء ذو قيمة تستحق أن تُذكر، وعلى كل حال لا تتركي أحلامك، ولا تقتلي طموحاتك بسبب الوضع الحالي، فالأيام تتغير والأبناء يكبرون والفرص تأتي، فكوني مستعدة لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.