شعار قسم مدونات

إلى رئيس الوزراء عبدالله حمدوك هل تسمعني؟

blogs حمدوك

للرجل نظرات مريحة، وقورة، وكأنه ينظر نحو البعيد، أسلوب كلام مهذب والبعض يرى أن نظراته تشبه نظرات أي أكاديمي أو موظف أممي رفيع المقام. يتحدث بصوت هادئ، ودقة شديدة وبلغة الأرقام التي لم يعهدها السودانيون طوال العهد البائد الذي اعتمد لغة تسمى بالعامية السودانية (الخم) أي الكلام السائب والملقى على عواهنه.

  

لم يكن طالب الدراسات العليا وقتها 1990م بجامعة مانشستر العريقة عبد الله حمدوك، يعلم بأنه سيفصل للصالح العام تلك السياسة القميئة التي اتبعها العهد البائد أول وصوله سدة الحكم، فصل الطالب وقتها حمدوك وأوقفت منحته الدراسية، ولم يكن يعلم أيضا أنه سيعود للبلاد بعد 30 عاما رئيساً لوزرائها، يحفه إجماع نادر من النظام والمعارضة والحركات المسلحة حتى.

 

تحد كبير ينتظر الرجل المنحدر من خلفية يسارية سابقة تعشق التحديات، لكنه وبحسب تصريحه في لقاء سبق أنه (برغماتي) فيما يتعلق بالحكم ومصالح البلاد، لغته الهادئة والمحايدة عجلت له حتى بانتقاد (الرفاق) ووصفه البعض إسفيريا بأنه صنيعة الرأسمالية العالمية وأنه ربيب الغرب الجشع وباقي معجم مصطلحات (البرافدا) الماركسية. الرجل لم يبد أي تهور ولو لفظي ضد خصومه في اليمين أو من كانوا في سدة الحكم قبله، بل كان جل حديثه أنه يغلب الوطن أولا وأخيراً.

 

هذه اللغة لا تعجب بطبيعة الحال الحاضنة السياسية المحلية التي تنقسم إلى يسار ويمين، ووسط لا يكاد يرى. لا تعجب مثل هذه لغة مناخ مملوء بالإسلاميين المتعصبين ضد اليسار والليبرالية مجتمعة، وملئ بنفس الوقت بيسار كلاسيكي يرفض حتى نزع عباءة ماركس ولينين الأيدولوجية ويؤكد على تبني عقيدتهم السياسية رغم أنف التاريخ وحركته التي لا تجامل لا اليسار ولا اليمين ولا الطائفية التي عفا عليها الزمن جدا ولم يبقى منها في المخيلة المحلية سوى الحضور البيولوجي لأبناء وأحفاد ال المهدي وال الميرغني. إذ لا كسب سياسي حديث يذكر لينقد.

   

  

أسلفنا أن الرجل تنتظره مهمة لا تقل خطورة عن مهام أفراد القوات الخاصة في الأحراش والوهاد والوديان، بل مهمته مقارنة بمهمات تلك الوحدات العسكرية المتخصصة أصعب بكثير، فأولئك الرجال قد يحررون منطقة، بلدة، قرية، لكن هذا الرجل حمدوك لوحده مناطاً به تحرير وطن. دمرته أيد العبث خلال 60 عاما هو عمر ما يزعم أنه (استقلالنا)، كان للإنقاذ وحدها نصف هذه المدة من التدمير ويا له من دمار مهول.

 

أضع هذه الرسائل المستعجلة في بريد طالب جامعة الخرطوم سابقا، سيادة رئيس الوزراء حاليا، علها تصادف نظره واهتمامه، ويسمع صوتاً لا يعرفه ولا يهم له معرفته من عامة شعبه، يرجو له التوفيق ولو اختلفت الأفكار والغايات، ألم نتفق كلنا في هذه الثورة الرائعة بأن الحصة الآن وطن؟

 

أولا: استمع سيادتك إلى صوت شعبك الذي احتفى بك ووثق فيك وقلدك أمره ولم يأبه بمقالة الشانئين عنك أبدا. انزل للناس في الشوارع والطرقات والأسواق، اركب معهم المواصلات العامة، اشرب قهوتهم في هجير شمس السودان المحرقة، حمل تطبيق واتساب وأنشئ صفحة على فيسبوك، أعلم أن وقتكم مع زحمة الحياة البروتكولية صعب عزيز، لكن خصص لشعبك النصيب الأوفر لسماعه هو وليس غيره، لا تكتفي بصوت الحاضنة السياسية التي رشحتك فقوى الحرية والتغيير مكون سياسي محترم مقدر لكنه ليس كل الشعب ولا ثلثه ولا أقل من ذلك، هم مؤسسات حزبية أفلحت في توجيه المد الثوري، وتلقفت الفرصة من الشارع الذي كان ينزف حد الموت ضد الطاغية، وسددت في الأخير في مرمى غريمها السياسي البشير لكنها وحدها لم تكن لتجرؤ حتى على المقارعة، وقد حاصص بعضهم الإنقاذ واليوم يحاصصونك. لذا استمع لأهل المصلحة أولى لك فأولى.

 

ثانيا: لا تنشغل بالتفاصيل، الإنقاذ فرخت لك تفاصيل لو مكثت ألف سنة لقراءتها لن تنتهي منها، بله عن ثلاثة سنوات انتقالية. إبدا بمفاتيح الحلول، وقد تفاءل الشارع العام حين طالعته الصحف أن أولى زياراتك الخارجية نحو لندن لما لها من ثقل دولي لا ينكر، وزاد التفاؤل يوم زارنا وزير خارجية ألمانيا، في وقت كان يزورنا فيه مدراء المكاتب والسكرتارية والمساعدين نيابة عن وزرائهم ويرفضون حتى مقابلة رأس الدولة لسمعته سيئة الصيت. وكل القلوب الان تهفو لرؤية رمز وطني يمثل الثورة في محفل دولي كاجتماع الأمم المتحدة بنيويورك نهاية هذا الشهر.

 

أدعوك لخلع عباءة قوى الحرية والتغيير وأن تكون سودانيا يرى فيك كل سوداني نفسه وحلمه، بوطن معافى، حر ومتقدم

كل ما يحصل الآن من أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية للأسف جل مفاتيح حلها بالخارج للأسف والخجل الشديد، لان العهد البائد بمساعدة المعارضة الكسيحة تعودوا على تدويل شؤوننا بلا أدنى اعتبار لمستقبل الوطن في قابل أيامه.

 

ثالثا: علا صوت المتطرفين في اليسار مؤخرا بضرورة إقصاء الإسلاميين كلهم، وارتفع صوت الإسلاميين نكيرا على اليسار والعلمانيين، وصعد كل مناد فكر منبره وجعل ينادي في ظل مناخ الحرية الحديث بفكره، صدقني سيادتك إذا أردت أن تقودنا إلى الهاوية وإلى قاع سحيقة فألقي سمعك وقلبك لإحدى الطائفتين. هذا الشعب لا يريد منكم أن تجددوا له فكره وعقيدته ورؤاه الفلسفية عن الله والحياة والوجود، هذا ترف لا يفكر فيه إنسان بحسبة عادية يقضي ثلثي يومه بإنتظار صفوف الخبز والبنزين والصراف الالي أو بإنتظار عودة التيار الكهربائي، أو بإنتظار مؤلم نتيجة فحص مريضه بمستشفى لا يملك معدات الفحص المتطورة. من ينادون الان بالعلمانية او بالإسلامية قوم مترفون جدا وعندهم فراغ أو منظمات أو وظائف تكفل لهم لقمة العيش الطرية في سبيل التفرغ للصياح الأيديولوجي فوق رأس المواطن المقهور، استمع لأي فريق وجازف بالمحاصصة لأحدهم أو حتى ضيع وقتك لرأب صدعهم العميق للم شتات الوطن، حسنا، لن تحصد سوى السراب، فلن يلتقي إسلامي حركي مع إسلامي جهادي وهو اختلاف تنوع فقهي طفيف، فضلا عن التقاء إسلامي بعلماني ويساري وبينهما خلاف تضاد كبير، وكلاهما صداع لرأس الوطن.

 

رابعا: لا تعادي الإسلاميين كافة وتأخذهم بجريرة الإنقاذ فالأخيرة لم تكن تمثل الإسلاميين بمختلف مدارسهم. الإنقاذ أقرب لتجمع انتهازي يمتهن السياسة لأجل لقمة العيش وقد كان فيها كل الطيف السياسي الحالي مرتزق، لا تحبهم حتى أو تؤيد أفكارهم، لكن ثق بأنك لا تريد معركة بقاء معهم الان أو بعد غد، الأصوات التي تنادي بإقصاء أي كادر إسلامي من الحياة العامة أصوات لا تعي حجم القنبلة التي تصنعها، استبشر الناس أنكم شكلتم مجلسا سياديا متنوعا، ومجلس وزراء متجانساً إثنيا وجغرافيا وكفاءات لا بأس ببعضها، ورحب الناس لوجود شخصية مسيحية في السيادي، لكن ينقص هذه اللوحة وجود تيار عريض له كسبه وتاريخه، فطالما مثل الشيوعي وحزب الامة والاتحادي ولو من وراء ستار كما يعلم رجل الشارع البسيط، فالسوداني لا يخدع في مثل هذه تفاصيل.. في مجلسي السيادة والوزراء فلا ضير أن يكون إسلامي من غير أهل الحزب البائد أو الموالين لهم فيه، وهم كثر وكفاءات عالية في مختلف الشؤون. وهم سودانيون بلا شك.

 

خامسا: حتى لا أكون مكررا كمحلل وخبير جزافي في محطة ما، تعلم سيادتك أننا غير مؤثرين بشيء يذكر في سياسة دول المحاور الخليجية الان، فنحن لا ندخل للخزينة القطرية ريالا، وكذلك السعودية لا تربح من وراءنا سوى جنودنا في الحد الجنوبي. عليه ابحث وفقكم الله عن مصلحتنا بعيدا عن فجور الخصومة بين أبناء العم، هناك أصوات بدأت تعلو تدعوك للاصطفاف مع معسكر الإمارات ضد قطر، السؤال لماذا؟ هل نحن أحد مكونات الاتحاد الإماراتي مثلا؟ لم أفهم تصريحات ذلكم المسؤول بقوى التغيير قبل مدة في الجرائد وهو يشن الحملة على قطر بأكثر من حملات (ضاحي خلفان)، ملكي أكثر من الملك نفسه. وليس دفاعا عن قطر، ولكن ليس للسودان في هذا النزاع من مصلحة ترتجى، بل ونحثكم على إعادة النظر في ملف جنودنا في اليمن فقد سئمنا وصفنا بالمرتزقة في كل مكان.

 

أخيرا، أضم صوتي للصحفي (عثمان ميرغني) وأدعوك لخلع عباءة قوى الحرية والتغيير وأن تكون سودانيا يرى فيك كل سوداني نفسه وحلمه، بوطن معافى، حر ومتقدم، وطن كما قال الدكتور (ناجي الأصم) في خطابه الملهم، يتطلع ليضيف للإنسانية ما تستحقه من كرامة وسلام، بعد تغييب قسري دام 30 سنة. ولو دقق أكثر لقال 60 سنة عجاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.