شعار قسم مدونات

لماذا ترفض الناس الترحم على المنتحر وتصفه بالكافر؟

BLOGS تفكير

ما حكم المنتحر وهل هو كافر وما حاله عند الله عزوجل وهل فعلا لا يجوز الترحم عليه؟ نرى ونسمع في كثير من الأحيان بعض المسلمون يطلقون التهم جزافاً على الناس وخاصةً من وقع في معصيةٍ أو من قتل نفسه انتحاراً بسببٍ من الأسباب التي تحيط به من آلمٍ أو جرحٍ أو حياةٍ بائسة يعيشها جعلته يطرب فكرياً وتؤدي به إلى هذه الواقعة فينتحر، ولست هنا لأبرر له، فمهما وصلت الحال بالإنسان لا يحق له قتل نفسه، لأن هذا الجسد خارج عن ملكيته وقراره. في هذا المقال أبين لكم بالدليل والبرهان أن المنتحر عاصٍ ومرتكبٌ لكبيرةٍ ولكن ليس بكافر ويجوز الدعاء له والترحم عليه إن شاء الله. فتعالوا معي في سياق القرآن الكريم وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نتعرف على ذلك.

المسألة الأولى

كما تعلمون أيها الأحباب أن منهجنا كأهل السنَّة والجماعة في فهم نصوص القرآن والسنة من خلال جمعها في سياقٍ واحد، فيقدم المقيِّد على المطلق، والتخصيص على العموم، والناسخ على المنسوخ، ويقدم الحديث الصحيح من الأحاديث على الضعيف، ويردون المتشابه من النصوص إلى المحكم منها، وعلى العكس فهناك فرق ضالة نظرت إلى هذه الأمور بعين واحدة فعميت بصيرتها، فنتج لنا الخوارج وقابلهم المرجئة، ونتج القدرية وقابلهم الجبرية.

المسألة الثانية
إذا تبيَّن لكم صحة ما سبق فالمحكم من النصوص والقطعي من الأحكام: أن المنتحر ليس يخرج من الإسلام بمجرد فعله، وعليه: فإن الخلود الذي ورد في حديث أبي هريرة ليس هو الخلود نفسه للمشركين والمنافقين والكفار

هذه المسألة (الانتحار) هي من المسائل الواضحة في منهج أهل السنَّة والجماعة وعمادها: (أنه لا يكفر عند أهل السنَّة كفراً مخرجاً من الإسلام ويستحق الخلود في جهنَّم إلا من جاء بما ينقض إسلامه باعتقاد أو قول أو فعل). لذلك نجد أن هذا القاتل لنفسه آثماً بفعله ويستحق الوعيد بالنار لهذه الكبيرة المنهي عنها ولكن ليس مثله كمثل فرعون وأبي لهب وغيرهم من المخلدين في النار ودلالة ذلك ما أسوقه لكم من الأدلة ومنها: 

1- إن كل ذنبٍ عدا الشرك بالله قابل للمغفرة من الله تعالى وقد نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" (النساء 48)، ولا شك أن قتل الإنسان لنفسه داخل فيما يمكن أن يغفره الله تعالى، وليس هو من الشرك عند أحدٍ من أئمة الإسلام. قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة: ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله". كما جاء في الموسوعة الفقهية (لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء المذاهب الأربعة، لأن الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام).

2- إذا نظرنا إلى الواقع في الشرع رأينا أن القاتل لنفسه يغسَّل ويصلَّى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين، ويورَّث، ولو كان بفعله ذاك كافراً فإنه لا تجري عليه أحكام الإسلام السابقة. وفي الموسوعة الفقهية أيضا (صرح الفقهاء في أكثر من موضع بأن المنتحر لا يخرج عن الإسلام، ولهذا قالوا بغسله والصلاة عليه كما سيأتي، والكافر لا يصلى عليه إجماعاً، وهذا صريح في أن قاتل نفسه لا يخرج عن الإسلام، كما وصفه الزيلعي وابن عابدين بأنه فاسق كسائر فساق المسلمين، كذلك نصوص الشافعية تدل على عدم كفر المنتحر). وقد يقول قائل لماذا أو يشكل عليه ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، لحديث (جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ الله عنْه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ).

والجواب أن هذا الترك ليس لأنه كافر خارج من ملة الإسلام بل هو لبيان تغليظ فعل، وليعتبر الأحياء بهذا، ومثله ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة في أول الأمر على المدين للأسباب نفسها، ولذا فإنه يشرع لخاصة الناس ترك الصلاة على قاتل نفسه المنتحر كما تركها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ترك الصلاة عليه بالكلية، بل يُصلَّى عليه، ويُدعى له بالرحمة. قال أبو حفص بن شاهين رحمه الله: "وهذه الأحاديث التي ذُكر فيها امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هؤلاء ليس أنه لا تجوز الصلاة عليهم، وإنما هو تغليظ من النبي صلى الله عليه وسلم ليُري الأحياء عِظَم الجنايات، والدليل على ما قلناه: قول النبي صلى الله عليه وسلم (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم) فلو لم يجز الصلاة عليه لما أمرهم بالصلاة عليه وقال أحمد بن حنبل: لا يصلي الإمامُ على قاتل نفسه ولا على غالٍّ، ويصلِّي الناس عليه، وكذا قال مالك بن أنس: المقتول في القوَد يصلِّي عليه أهله، غير أن الإمام لا يصلِّي عليه).

وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلَّى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يصلَّى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله وصلَّت عليه الصحابة). وإليكم دليل آخر يبين أن القاتل قد يدخل الجنة، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ: "فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَمَرِضَ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ! فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ". وقد ترجم عليه الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: "باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر"، وفي الحديث إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، فإن هذا عوقب في يديه. ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر.

المسألة الثالثة

فإذا تبيَّن لكم صحة ما سبق فالمحكم من النصوص والقطعي من الأحكام: أن المنتحر ليس يخرج من الإسلام بمجرد فعله، وعليه: فإن الخلود الذي ورد في حديث أبي هريرة ليس هو الخلود نفسه للمشركين والمنافقين والكفار، وأن تحريم الجنة الذي ورد في حديث جندب ليس هو كتحريمها على أبي لهب وأبي جهل، وأن لكل واحدة من اللفظين من التأويل ما يناسب مقام سياقها وفيمن وردت فيه، وهذا هو منهج أهل السنَّة المحكم في فهم النصوص، كما سبق. وأما قوله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تعالى في حق قاتل نفسه (حَرَّمْتُ عليه الجَنَّة) فهو من الباب نفسه، فالتحريم تحريمان: تحريم مؤبَّد وهو تحريم الجنة على الكفار والمشركين والمنفقين فلا يدخلونها البتة، وتحريم مؤقت، وهو تحريمها على العصاة من المؤمنين مع أول الداخلين، فهو تحريم لفترة من الوقت ثم يدخلونها وتكون مستقرّاً لهم. 

والحاصل من ذلك كله أن المعصية بقتل الإنسان نفسه لا تخرجه من ملة الإسلام، ولا توجب له الخلود في النار، كخلود الكفار والمنافقين والمشركين ولذلك يجوز الدعاء له والترحم عليه حتى. قال ابن خزيمة رحمه الله: "كلُّ وعيد في الكتاب والسنَّة لأهل التوحيد: فإنما هو على شريطة، أي: إلا أن يشاء الله أن يغفر ويصفح ويتكرم ويتفضل فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة، إذ الله عز وجل قد خبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر ما دون الشرك من الذنوب في قوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.