شعار قسم مدونات

مأزق حرية التعبير في أوروبا

blogs مجتمع

هتفت الجمهرة: "نريد مشاهدة الفيلم!". تردّدت أصداء الهتاف بالألمانية في قلب فيينا التاريخي، مساء الثالث من سبتمبر/ أيلول 2019، حول دار "آرتيس" للعرض. ألغَت المنشأة الثقافية النمساوية العرض الأوّل لفيلم "يالله يالله" أو Yallah Yallah الذي حضر مخرجه الأرجنتيني كريستيان بيروفانو خصيصاً، فاضطرّ إلى إلقاء كلمته في الشارع عن أول إنتاج مشترك أرجنتيني – فلسطيني. لا يروق الفيلم لمحتلي فلسطين بالطبع؛ لأنه يُتيح للجمهور حول العالم معايشة ما يجري خلف الحواجز العسكرية والجدران الرمادية الكئيبة، من خلال واقع كرة القدم المقيّدة تحت الاحتلال. تكشف خبرات كهذه عن مأزق مُحتَمل تواجهه حرية التعبير في ثنايا أوروبية، بما يمنح انطباعاً بقصور الامتثال للمبادئ التي تحظى بالتمجيد وبنزعة انتقائية محتملة في الالتزام بمقتضياتها، وما يُثير تساؤلات شائكة أن يتوارى الحدث عن الصحافة المحلية في اليوم التالي؛ بينما تناقلت الواقعة تقارير عدّة عبر العالم.

 

سطوة ناعمة على المضامين

ليست الحالة استثنائية على ما يبدو، فقبل أسابيع من إلغاء العرض السينمائي في فيينا أطلق الفنان الصيني الشهير، آي ويوي، نقداً لاذعاً من منفاه الاختياري في برلين. جاء ذلك في مقابلة أجرتها معه صحيفة "دي فيلت" البرلينية في الثامن من أغسطس/ آب؛ تطرّق فيها إلى إقدام مهرجانات سينمائية وثقافية ألمانية على استبعاد بعض الأفلام من عروضها، معلناً عن أنه قرّر مغادرة الجمهورية الاتحادية ومجتمعها "المنغلق"، حسب وصفه. يعود سبب الحجب في حالة الفيلم الأول في فيينا إلى حملات ضغط ضارية يشنّها مؤيِّدو الاحتلال، وتكشف الحالة الثانية في برلين عن أولويات بعض الشركات الكبرى التي ترعى نشاطات ثقافية وتخشى فقدان مصالحها مع الصين إنْ تمسّكت بدعم مهرجانات تعرض أعمالاً لا ترغب بكين في إظهارها للعالم.

 

ليس الاختبار الجوهري لحرية التعبير في انتقاد أنظمة اشتراكية في عاصمة غربية، أو في ازدراء الإسلام من منصّة أوروبية متحاملة عليه ابتداءً؛ وإنما في فرصة تسديد نقد مُوجِع لتوجّهات استراتيجية كبرى لا يرقى إليها شك

لا تبدو وقائع كهذه استثنائية في السياق الأوروبي، رغم مركزية حرية التعبير في الشعارات والدساتير والوعي الجمعي لمجتمعات القارّة المتدثِّرة بالقيَم. فكثيرة هي الأعمال الفيلمية التي لم تجد فرصة عرض في المهرجانات السينمائية دون أن يطلق أحد صرخته في اليوم التالي، ووفيرة هي النشاطات الثقافية والجماهيرية التي أُوْصِدت دونها قاعات ومرافق أو ألغِيت ترتيباتُها في اللحظات الأخيرة بذرائع شتى. تتعدّد المبرِّرات الواقعية في هذه الحالات، بما يحتمل الاتفاق مع بعضها لأسباب مبدئية وأخلاقية؛ بينما يُسفِر بعضها الآخر عن تحيّزات غير مبدئية أو لعلّها تشي برضوخ جسيم لحملات تشويه وتحريض لا تقوى المنشآت الثقافية على احتمالها؛ وهي التي تخشى على موارد الدعم التي تجود بها عليها صناديق عامّة وخاصّة ورعايات لها سطوتها الناعمة على المضامين.

 

يصحّ النظر إلى الحالة من وجه عكسي، هو مفعول صيغ التمويل والرعاية والدعم التي تُمنَح للأفلام والأعمال الثقافية والمصنّفات الإعلامية والفنِّية والنشاطات المجتمعية والشبابية من أموال عامّة أو خاصّة. تفرض هذه المصادر أولويّات وشروطاً بما يؤدِّي إلى ارتهان حيِّز واسع من الفضاء الثقافي والفني وجهود المجتمع المدني لمسارات محدّدة. ومَن يمنح يتأهّل للتأثير الناعم في الاختيارت والتفضيلات والمضامين؛ بما يرسم تساؤلات عن منسوب الحرية المستقلّة لبعض الأعمال والمضامين التي تتحرّى ما يأتي في كرّاسات الشروط والتعليمات. يتجلّى هذا مثلاً في أولويّات تحدِّدها الجهات المختصة بتمويل الثقافة والفنون والمجتمع المدني في الاتحاد الأوروبي، بما يوجِّه الأعمال والجهود بمقتضاها، بما يُحتمَل معه تغييب أولويات أو تفضيلات أخرى. يمكن تعقُّب تأثير هذه السلطة الناعمة، مثلاً، في طبيعة الأفلام والنشاطات الثقافية التي يموِّلها الاتحاد الأوروبي في الفضاء المتوسطي مغرباً ومشرقاً، وكيف ينعكس هذا المنحى على تحرِّي أولويّات المانح وتملّق منظوره الثقافي؛ على حساب أولويّات الجماهير المحلية في الشعوب وهويّاتها.

 

حدود حرية التعبير في أوروبا

لحرية التعبير مكانة مركزية ضمن ما يسمى "القيم الأوروبية"، فهي ثمرة مخاضات شاقّة استغرقت أطوارها قروناً إلى أن سلكت سييلها في مواثيق ودساتير مرجعية وشكّلت وَعيَ أجيال متعاقبة عبر مضامين تعليمية وثقافية وإعلامية تدور حول المقولة عينها. اجتذبت حرية التعبير، تحديداً، بعضاً من صفوة المجتمعات حول العالم إلى وجهات أوروبية منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ صارت معها حواضر مثل باريس ولندن وجنيف وغيرها مَهاجِر لمعارضين ونخب ثقافية شريدة؛ فراراً من المطاردة السياسية أو تملّصاً من الضغوط المجتمعية. انصبّ اهتمام كثير من نخب المهجر هذه، على نقد الأوضاع القائمة في مساقط رؤوسها، فوجدت بعض الأسماء سَعَة في أمرها وكسب بعضُها تكريماً أوروبياً، ولا يبدو أنها جرّبت استعمال النقد الصارم مع بيئاتها الجديدة أو اختبرت منسوب الالتزام بحرية التعبير في واقعها المباشر.

 

ليس الاختبار الجوهري لحرية التعبير في انتقاد أنظمة اشتراكية في عاصمة غربية، أو في ازدراء الإسلام من منصّة أوروبية متحاملة عليه ابتداءً؛ وإنما في فرصة تسديد نقد مُوجِع لتوجّهات استراتيجية كبرى لا يرقى إليها شك، أو خوْض مراجعة جريئة للأنظمة الرأسمالية في معاقلها، أو مساءلة حملات التدخل العسكري الخارجية وما تقترفه مع الأهالي المحليِّين في غيبة الصورة والمشهد والبثّ المباشر، أو هكذا مثلاً لا حصراً. مَن بوسعه أن يفعل دون أن يرتدّ شيء من ذلك في اليوم التالي على امتيازاتِ الذي فعل فعلته فأقدم على تهشيم "التابوات" التي لا تخلو منها أمّة ولا يتجرّد منها مجتمع؟! صحيحٌ أنّ نقد الأنظمة المعمول بها على نحو جذري يبقى مكفولاً للجميع بمقتضى حرية التعبير ونصوصها المرجعية؛ لكنّ واقع الممارسة يجرّ تبعات شاقّة بصفة مباشرة أو تراكمية وإن لم تكن ملحوظة، وقد يُسبِغ تصنيفاتٍ أيديولوجية ذميمة تعود على أصحابها بخُسرانٍ مُبين في حضورهم المجتمعي وفرصهم في المشاركة والصعود. إنّ الزّهْو بالالتزام المُعلَن بحرية التعبير المشفوعة بشواهد عملية تبرهن عليها؛ يمنح الانطباع بالامتثال الأمين لها مهما بلغ الأمر؛ بما يُعْمِي الأبصار عن وجوهٍ مُحتمَلة من التقييد تحدّ من هذه الحرية أحياناً أو تكبحها في بعض الحالات.

 

معلومٌ أنّ الدساتير والتشريعات والأنظمة المعمول بها في معظم البيئات الأوروبية تكفل حرية التعبير وتعدّها قيمة مغلّظة، فتمنح حقّ البوْح مبدئياً، لكنها تستدرك على ذلك في التفاصيل، وهي فوق هذا لا تضمن، بالطبع، ألاّ تجرّ مضامين التعبير الحرّ تأثيراتٍ لا يرغب بها صاحبها؛ كأن تمسّ بمصالحه أو تقضم من مكتسباته أو تسدّ أبواباً من الفرص في وجهه من حيث احتسب أو لم يحتسب. تكفل حرية التعبير حقّ البوْح غالباً؛ دون أن تضمن لصاحبه أن يدرأ عن نفسه عواقب التعبير وأثمانه. تبقى حرية التعبير مكفولة في البيئات الأوروبية بصفة مبدئية، فله أن يتحدّث وعليه أن يحتمل مسؤوليّته عن البوْح، مع استثناءات محدّدة نصّاً أو مُسبتطَنة عُرفاً تحظر بعض التعبير وتُلجِم بعض البوْح. ولا ينفكّ التعبير ذاته عن قيود غير مرئية تتشكّل من واقع الثقافة المجتمعية والمزاج الشعبي أو الجماهيري واتجاهات التداول العام؛ بما يُغوي بالسُّكوت أو يُغري بالمجاراة، خاصة إنّ تجنّدت التغطيات الإعلامية المتحاملة وباشرت كتائب "حرية الصحافة" مطاردة هذا الذي "سكت دهراً ثم نطق كفراً".

 

قيود قانونية وعرفية
يكشف الواقع الداخلي للممارسة الصحفية عن حالات تخضع معها حرية التعبير في المجتمعات الديمقراطية لكوابح غير مرئية. تتضافر في تقييد حرية التعبير في المؤسسات الصحفية والإعلامية رقابة مؤسسية تفرضها الإدارات بأساليب ناعمة

يغفل بعضهم عن أنّ القيم والمبادئ لا تتنزّل في الواقع إلاّ مقيّدة بمحدداته وشروطه، وهو ما يحفِّز التساؤل عن حدود حرية التعبير ضمن الواقع الأوروبي كما يبدو مشهوداً في القرن الحادي والعشرين. تخضع ممارسة الحقوق والحرِّيات في الأنظمة الديمقراطية لقيودٍ مقرّرة؛ تنطلق أساساً من إرادة منع التعدِّي على مصالح أو حقوق وحريّات عامّة أو خاصّة. بمقتضى ذلك؛ تتضمّن المواثيق والدساتير والقوانين والقرارات والمراسيم ذات المكانة القانونية، ما يمثِّل حدوداً تشريعية لحرية التعبير. فقد تتعارض حرية التعبير مع حرِّيّات أو حقوق أو قيَم أخرى، بما يُنشئ إشكاليةً قد تُفضي إلى فرض قيودٍ أو التزاماتٍ يتمّ إلحاقُها بحرية التعبير أو بغيرها من الحرِّيّات أو الحقوق أو القيَم. لا يخفى أنّ "العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية" (1966) هو وثيقة أكثر تفصيلاً من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (1948). وكما وردت مسألة حرية التعبير في المادة التاسعة عشرة من "الإعلان"؛ فإنّ المادة التاسعة عشرة من "العهد" جاءت مخصّصة لحرية التعبير أيضاً؛ لكن مع تفاصيل تضمّنت قيوداً على هذه الحرية.

 

تأتي القيود أو الالتزامات التي يتمّ فرضُها؛ على صِيَغ متعدِّدة في دساتير الدول وتشريعاتها، وكلّما كانت أكثر دقّةً وتحديداً؛ كلّما اعتُبِر هذا مؤشِّراً على جودة النظام القانوني في احترام حرية التعبير وضمانها. فالتعبيرات الفضفاضة التي تعتمدها بعض الأنظمة التشريعية في سرد القيود المُلحَقة بحرية التعبير؛ تمنح السلطات مجالاً أوسع لتجريم ممارسات تُعَدّ مُنضَوِيةً ضمن نطاق هذه الحرية. ومع ذلك؛ فإنّ غايات التقييد المنصوص عليها في الأنظمة الدولية والأوروبية تبقى قابلةً للتأويل والتنزيل بكيفيّات تقرِّرها الجهات المختصّة، وقد يثور الجدل بشأن سلامة إعمال القيود على ما يدخل ضمن حرية التعبير في بعض الحالات. إنّ تقييد حرية التعبير بمبرِّر "حماية الأمن القومي" مثلاً، هو من القيود الإشكالية التي يمكن أن تُتّخذ ذريعةً لفرض أشكال من الرقابة، وقد تختلف في منسوبها في زمن الحرب عنه في زمن السِّلم. يبدو مفهوماً، بالتالي، أن تُقيِّد "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" حرية التعبير بضابطٍ يُضاف إلى ما ورد في المواثيق الدولية؛ هو أن تكون القيود "ضروريةً في المجتمع الديمقراطي"، وذلك تحرّزاً من استعمال القيود بشكل فضفاض أو بما يخالف الديمقراطية.

 

تأسيساً على ذلك؛ تفرض التشريعات في الأنظمة الديمقراطية قيوداً وضوابط على حرية التعبير، وإنْ اختُلِف في تنزيلها من بيئةٍ أوروبية إلى أخرى. تتضمّن المنظوماتُ القانونية الأوروبية قيوداً عامّة على حرية التعبير، مثل "نشر مواد تضرّ بالأمن القومي"، أو "التعبير المسيء لأفراد"، أو "انتهاك حقوق آخرين"، أو "انتهاك الخصوصيات". وزيادة على ذلك ترِد قيودٌ تفصيليّةٌ محدّدة، منها ما يتّصل بحرية تعبير المسؤولين في الوظيفة العمومية عن آرائهم، على سبيل المثال. ومن الأمثلة الواضحة في هذا الشأن أيضاً، قوانين تتعلّق بالوقائع التاريخية، بما يحدّ من حرية التعبير إن اشتمل على "إنكار حقائق تاريخية" محدّدة، وقد يشمل ذلك حظر بعض أعمال البحث العلمي والأكاديمي إن عُدّ تشكيكاً بها. سنّت فرنسا قوانين تجرِّم "الإنكار"، لكنّ برلمانها (الجمعية الوطنية) أقدم سنة 2005 على سنّ قانون "تمجيد الاستعمار"؛ بما يجاري نزعة إنكار متأصِّلة لا تقوى على فتح ملفات مشبّعة بانتهاكات جسيمة وجرائم حرب ومزاعم إبادة جماعية ولا تشجِّع التناول الحرّ والمستقلّ عن وقائعها.

 

من عادة التفرقة في فضاء "دولة القانون" أن تسعى إلى استعمال أدوات دولة القانون ذاتها في شرعنة خطواتها وإجراءاتها. تفاقمت في أوروبا، على هذا المنوال، اتجاهاتُ حظرٍ وتفرقة، مكرّسة للتضييق على حرية المسلمين دون عموم المجتمع، غالباً، في سلسلة من القوانين والإجراءات المتلاحقة، بما يمسّ بعض وجوه التعبير والاختيارات الشخصية؛ في اللِّباس والمضامين الدينية وحتى في توزيع المصاحف في الأماكن العامّة مثلاً، وهو مسلك له تاريخ في تعامل دول أوروبية مع أقليات معيّنة. ولا يقتصر تقييد حرية التعبير على ما تنصّ عليه القوانين أو الإجراءات المشروعة قانونياً في هذا الشأن، فالموقف يتجاوز ذلك في الواقع العملي إلى قيودٍ تفرضها سياساتٌ أو أعرافٌ أو إجراءات معيّنة.

 

كوابح التعبير الإعلامي

يكشف الواقع الداخلي للممارسة الصحفية عن حالات تخضع معها حرية التعبير في المجتمعات الديمقراطية لكوابح غير مرئية. تتضافر في تقييد حرية التعبير في المؤسسات الصحفية والإعلامية رقابة مؤسسية تفرضها الإدارات بأساليب ناعمة غالباً، مع رقابة ذاتية يتحرّاها الصحفي أو الإعلامي "المنضبط". ومع تلاشي صور الرقابة التقليدية الفجّة على المضامين الإعلامية في ديمقراطيات الحاضر؛ تبقى للرقابة الذاتية هوامش نسبيّة للتأثير على اختيارات الصحافيين والإعلاميين وكيفيات تناولهم بعض الموضوعات، وقد يبدو الخضوع للمحدِّدات المقيِّدة أو المتحيِّزة تناولاً "موضوعياً" يُفاخر بالتزامه "المعايير المهنية".

 

تستبطن السياساتُ التحريرية المعمولُ بها في وسائل الإعلام قيوداً نسبية على المضامين، ويأتي في هذا السياق ما يُسمّى بالخطّ التحريري أو السياسات التحريرية للصحيفة أو اتجاه الوسيلة الإعلامية. كما أنّ خشية وسائل الإعلام من خسارة كبار المُعلنين لديها قد يحرِّض على استبعاد مضامين ناقدة، بما يفرض رقابة مُسبَقة غير ملحوظة أحياناً لأنها تكتفي بإشاحة البصر بعيداً عن وقائع دون الاضطرار إلى استدعاء مقصّ الرقيب الصّدِئ. إنّ بيْع المساحات الإعلانية يعرقل فرص النقد في بعض وسائل الإعلام، بما يُغري دولاً ثرية ومؤسسات كبرى وشركات متنفِّذة باستغلال هذا التأثير لمحاولة درء النقد عنها أو رفع كلفته بالأحرى. يفرض هذا المنحى رقابة ذاتية تتحرّاها مؤسسات صحفية عبر أوروبا عندما تدرك أنّ التمسّك بنشر تقارير ناقدة عن أوضاع أو ممارسات في بلد معيّن قد يكبِّدها خسارة تعاقدات إعلانية سنوية سخية للغاية مع مؤسسات مرتبطة بالبلد المعني، بما يضع حرية التعبير أمام اختبار التضحية الشاقّة.

 

الولوج الطوعي إلى القفص
الأنظمة الديمقراطية وأدواتها، من مؤسّسات عامّة وهيئات، تملك سلطة لطيفةً تُتيح لها ممارسة المَنْح والمَنْع، أو التقريب والإقصاء، أو الإضاءة والإعتام. إنها تُغدِق امتيازاتٍ أو تحجبها، فيكون للترغيب والترهيب مفعول مؤثِّر على التعبير

إنّ اختزال معضلة حرية التعبير في نصوص تكفلها وأنظمة تضمنها يبقى تبسيطاً ساذجاً للمسألة. فحتى في أعرق الديمقراطيات وأسبقها إلى تبنِّي مواثيقها والتباهي بشعاراتها؛ تتحدّد هذه الحرية وتتقيّد، وقد تناهز القيودُ غير المرئيّة أحياناً مفعولَ نظيرتها المشهودة في بيئات أخرى. قد تكون حرية التعبير مكفولة مبدئياً وقانونياً، لكنّ التعبير ذاته قد يتطلّب من صاحبه شجاعةً أدبية جَسورة واستعداداً لجني الأشواك. يجرّب المتحدِّثون في المؤتمرات والندوات والمنصّات الجماهيرية، بصفة مصغِّرة، تأثيراً طفيفاً ذا وطأة على حريّتهم اللحظية في التعبير؛ فاحتمالات التصفيق ترتفع مع مضامين معيّنة، وقد تستثير مضامينُ مغايرة اعتراض الجمهور. يبدو المثال قابلاً للتنزيل بأبعاد أكبر وعواقب جسيمة على بعض فرص التعبير الحرّ في مجالات معيّنة، بما يفسِّر ولوج بعض النخب أقفاص مذهّبة تمتنع فيها عن البوح أو تتملّق فيها النزعات السائدة.

 

ومِن عادة الذين يستشعرون نجاحهم في دخول أروقة المحظيِّين المُوصَدة؛ أن يحرصوا أشدّ الحرص على المكوث المُستدام فيها؛ فيتحاشَوْن البوْح بما قد يتسبّب في إقصائهم عنها. تتمثّل هذه الأروقة، مثلاً، في مؤتمرات وندوات ومحافل يُدعَى إليها أحدهم بانتظام، وقد يُقترَح اسمه لاعتلاء المنصّات والظهور في الشاشات بتزكيّات يتواطأ عليها المُمسكون بمفاتيح الحظوة. لكنّ "الخروج عن النصّ" وإظهار النقد في اتجاهات غير مرغوبة في البيئة المكلّلة بمقولات الحقوق الأساسية وشعارات حرية التعبير؛ قد يهدِّدان فرص أحدهم في التصدّر أو يُقلِّصان امتيازاتٍ ومكتسباتٍ يحظى بها، فيَلقى مصيراً تجرّع مرارته مشاهير من قبله صاروا نسياً منسياً بعد تجاهُلهم والإعراض عنهم لأسباب ظاهرة أو مُستَتِرة. فليس نادراً في بيئات أوروبية "حرّة" أن تأفل وجوه وأسماء بعد بزوغها؛ لتعبيرٍ أظهرته أو إفصاحٍ تبنّته.

 

واقع الحال أنّ الأنظمة الديمقراطية وأدواتها، من مؤسّسات عامّة وهيئات، تملك سلطة لطيفةً تُتيح لها ممارسة المَنْح والمَنْع، أو التقريب والإقصاء، أو الإضاءة والإعتام. إنها تُغدِق امتيازاتٍ أو تحجبها، فيكون للترغيب والترهيب مفعول مؤثِّر على التعبير الذي لا يجري في فراغ حياديّ أساساً. تَستعمِل الأنظمةُ الديمقراطية قوّتها الناعمة في استمالة النُّخَب والجماهير نحو إظهار الولاء لمضامين معيّنة وتنفيرها من مضامين أخرى. من المألوف، بالتالي، أن تخضع حرية التعبير لِتَكيُّف طوْعي يمليه منطق الجوائز والأوسمة وألقاب التكريم الممنوحة من جهات رسمية وخاصّة، بالنسبة لمن يتحرّاها أو يخشى حرمانه منها. إنّ أعرافَ التكريم العامّة أو الخاصّة، من قبيل منح الألقاب والجوائز والأوسمة وإغداق التبجيل والتقدير والحفاوة؛ تُساهِم في فرض "رقابة تفضيلية" تحفِّز إقبال الإعلاميين والفنّانين والمثقفين والأدباء وغيرهم، على تناول موضوعات ومضامين وإهمال أخرى قد تتقدّم عليها في الأهمية.

 

يتفاعل الإنسان مع مؤثِّرات شتى في واقعه؛ بما يحدّ من قدرته على تمثّل حرية التعبير التي لا تُتاح له من هذا الوجه أيضاً بالمعنى المُطلَق. لا يلحظ بعضهم أنّ الامتيازات التي تجود بها دول وسلطات وهيئات ومؤسّسات عامّة وخاصّة على أطياف من النخب، ومنها طلائع شبابية واعدة؛ هي قيود تُثقِل فرصها في التعبير الحرّ، وهذا عيْن النقد الذي يُوجِّهه مثقّفون وأدباء وفنّانون وناشطون إلى منطق الجوائز التقديرية الممنوحة لأصحاب "الإنجازات". لا ينسج هذا الاستنتاج مِن تلقائه زعماً متعسِّفاً بأنّ حامل الجائزة ما كوفئ بها إلاّ على انصياعٍ أو تملّقٍ أو مجاراةٍ أو تواطؤ أو سكوت؛ فالمقصد أنّ الجوائز والامتيازات تفعل فعلها في ترغيب النُّخَب لكسبها وترهيبها من الحرمان منها؛ وإن لم يَصدُر مانحوها عن هذا المقصد أساساً، فهذه التقاليد الناعمة تُمارِس "عُنفاً رمزياً"، بتعبير بيير بورديو، على واقع حرية التعبير، كما تفعل أنظمة التعليم المدرسية مع تلاميذ تفرض عليهم الانضباط وترهِّبهم من عواقب المروق.

 

منطق القضم من حرية التعبير

نادراً ما يُقضَم مِن حرية التعبير بطرُق فجّة؛ طالما أنّ هذا المسلك يجري في بيئات تتبنّى هذه الحرية مبدئياً وتتباهى بشعاراتها. فمسلك القضم لا يأتي في هذه الحالات، على الأغلب، إلاّ مشفوعاً بتبريرات، قد تبدو مُحِقّة أو وجيهة أحياناً، وقد تُستعمَل فيها القيَم والمبادئ على غير مقصدها. ولا يقع تعريف التقييد في حالات كهذه على أنه مساس بحرية التعبير، وإنما يُسنَد إلى مسوِّغات ودواعٍ تتّصل بمبادئ والتزامات مُعلَنة.

 

من الخبرات المألوفة في هذا الشأن، مثلاً، أن يُمنَع متحدِّثون من الظهور على منصّات أو حتى من دخول بلد ديمقراطي رغم حيازتهم وثائق تمنحهم هذا الحقّ، وهذا بموجب إدراجهم في تصنيفات منبوذة أو عقاباً لهم على تعبيرات تُعَدّ ذميمة في البيئة المعنية. والمعضلة الماثلة في هذا المنحى أنّ الطابع الفضفاض لما هو مرفوض أو منبوذ أو ذميم كفيل بأن يُتيح توظيف الذريعة في اتجاهات مُلتزمة بمبادئ نبيلة مقرّرة؛ أو استغلالها في الرضوخ لنزعات إقصاء وإسكات، خاصّة إنْ تسلّل مُتحاملون إلى مؤسّسات عامّة ومواقع رسمية؛ وإنْ تبوّأت قوى شعبوية أو يمينية متطرِّفة الصدارة في بلدانها. تبقى التصنيفات المرجعية عرضةً لتأثيرات ضاغطة على النحو الذي أفصحت عنه شولاميت ألوني، الوزيرة السابقة في حكومة الاحتلال والقيادية في حزب "ميرتس"، في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاتها (2014) من أنّ ناقدي سياسات الاحتلال في الدول الغربية تطاردهم شبكات تستعمل وصمة "العداء للسامية" التي تُحرِز مفعولاً مشهوداً في تقييدهم وإسكاتهم.

 

تعمل حرية التعبير ضد حرية التعبير أيضاً؛ عندما تتجنّد حملات مسدّدة بعناية لفرض حالة إسكات مرهوبة الجانب على شخصيّات أو مكوِّنات مجتمعية، بوسائل التشهير والإنهاك التي تستهدف الإضرار بالتزام مبدئي أو تشويه موقف أخلاقي

تبقى وصمة التشهير على هذا النحو ذريعة ميسّرة للتضييق على فرص التعبير والنشاط المؤيِّدة للحقوق والعدالة في فلسطين، ومن ذلك ما يستهدف حركات "المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات" أو "بي دي إس" اختصاراً؛ من حملات تشهير ضارية وخطوات تقييد متعاقبة، كما تجلّى مثلاً في جلسة عقدها البرلمان الألماني "بوندستاغ" يوم 17 مايو/ أيار 2019 وتمخّض فيها عن قرار شديد اللهجة ضدّ حملات المقاطعة التي صبّ عليها متحدثو الكتل البرلمانية نعوتاً ذميمة بزعم أنها "معادية للسامية، وتريد تدمير إسرائيل". مال المتحدثون البرلمانيون كل الميْل مع موادّ دعائية مكرّسة لتشويه "بي دي إس"، ممّا تنفق عليه حكومة بنيامين نتنياهو بسخاء، كما تجاهل النوّاب مثلاً أنّ عدداً من روّاد حركات المقاطعة هذه عبر العالم هم من اليهود أساساً، وأنها تعتمد خطاباً واضحاً ومحدّداً يرتكز على مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية. تغاضى نوّاب "البوندستاغ" عن أنّ أسلوب المقاطعة ذاته مكفول ضمن الحرِّيات، فهو تعبير عن موقف ورأي وضمير، لجأت إليه حركات التضامن عبر العالم مع قضايا عدّة، وأثبت جدواه في تصعيد الضغط الأخلاقي على نظام التفرقة العنصري البائد في جنوب إفريقيا.

 

تتجلّى محاولات تجريم النقد الموجّه لنظام الاحتلال في فلسطين شاهداً جَلِيّاً على معضلة تواجهها حرية التعبير في بيئات أوروبية، بما يمسّ حرية المجتمع المدني والنشاط الثقافي والعمل الفني والجهود الإعلامية والنشاطات الجماهيرية، على نحو تعلو منه الشكوى في السنوات الأخيرة. تستعمل حملات الضغط أساليب الوصم المكثّف والتشويه المنهجي بحقّ الجهود المُناصِرة للحقوق والعدالة، بما يؤدي إلى امتناع مراكز ثقافية وقاعات عرض عن استضافة فعاليات ناقدة للاحتلال، ومن شأن هذا أن يردع شخصيّات عامّة عن التعبير الحرّ عن مواقفها أو أن تتكبّد خسائر جسيمة إن أصرّت على البوْح الجريء الذي تتعقبّه منصّات تجعل رزقها أنها تغترف من التشويه والتحريض والشيْطنة.

 

يخضع توظيف المبادئ والقيَم لنزعات انتقائية جليّة أحياناً، فتعبير "خطباء الكراهية" يختصّ في بعض البيئات الأوروبية بوجوه مُسلِمة على نحو حصري تقريباً، فهي التي تُرمَى بالتعصّب بحقّ أو بدون وجه حقّ، وقد يُحظَر عليها النشاط أو يُضيّق عليها في التحرّك، وقد يَستعمِل المقولةَ الذميمةَ خطباءُ كراهية شعبويّون من قادة الأحزاب الصاعدة؛ يسعون بأسلوبهم الغوغائي هذا إلى تحسين فرصهم الانتخابية بإظهار الصرامة في حملات إذلال تفتك بالمسلمين معنوياً على مرأى من جمهرة الناخبين. وقد يستدعي سياسيون ذريعةَ الحفاظ على "القيم الأوروبية" بين يدي خطوات حَظْر وتقييد تستهدف المسلمين مثلاً، رغم تناقُض المسعى، على ما يبدو، مع ما تقضي به "القيَم" ذاتها. تكشف المعضلة عن مأزقها إن اكتسح ساسة متعصِّبون أروقة صنع القرار في بلد ديمقراطي، وباشروا من فورهم استغلال مواقعهم في مطاردة مكوِّنات هشّة حديثة التشكُّل من خلفية مهاجرة مثلاً؛ وتعنيفها رمزياً وسلب امتيازات معيّنة منها؛ بذريعة حماية "ثقافتنا الحرّة وطريقتنا في العيش"، وهو ما حرص عليه قادة أقصى اليمين الذين صعدوا إلى حكومتيْ إيطاليا والنمسا مثلاً.

 

حرية التعبير ضد حرية التعبير

يتذاكى التضييق الجائر على حرية التعبير في بيئات ديمقراطية، فهو يستحضر بعض القيم انتقائياً ويُشهِرها كهراوة أخلاقية للانقضاض على فرص تعبير حرّة. فالقضم من هذه الحرية يحظى بتبرير أخلاقي ملفّق عادةً، وهو خيار مُيَسّر إن بدا ضحاياه محسوبين على أقليات مُستضعَفة أو فئات مهمّشة أو مكوِّنات منبوذة؛ فيجري الاستقواء عليهم بمنطق سائد في "مجتمع الأغلبية". قد يُقال مثلاً: "لا تسامح مع غير المتسامحين"، أو "لا حرية لأعداء الحرية". يشير ذلك إلى جاهزية مقولة "حرية التعبير" ذاتها لأن تتجنّد في مواجهة حرية التعبير، وقد تُتّخذ منصّاتها "الحرّة" خنادق لاستهداف تعبيرات حرّة أو مستقلّة عن الخطّ العام "المُعتَمد" أو التيّار المجتمعي "السائد".

 

تعمل حرية التعبير ضد حرية التعبير أيضاً؛ عندما تتجنّد حملات مسدّدة بعناية لفرض حالة إسكات مرهوبة الجانب على شخصيّات أو مكوِّنات مجتمعية، بوسائل التشهير والإنهاك التي تستهدف الإضرار بالتزام مبدئي أو تشويه موقف أخلاقي. باح الرئيس النمساوي المعتدل ألكسندر فان در بيلين بتصريح نادر سنة 2017، حذّر فيه من تفاقم نزعة الإسلاموفوبيا المستشرية لدى سياسيِّي بلاده، وأعرب فيه عن تضامنه مع النساء المسلمات اللواتي تُصَبّ عليهنّ ألوان التشويه؛ فاستهدفته سهامُ الضغط المحلية ودعته إلى الاستقالة من موقعه الأبرز؛ فاضطرته الضغوط المتعاظمة إلى التملّص من الحصار الخانق بالتراجع عمّا قاله. قد يبدو من منظور معيّن أنّ الأوساط المُتحامِلة سياسياً وإعلامياً وثقافياً وشبكياً وفي المجتمع المدني أيضاً؛ استعملت "حريّتها في التعبير" في مواجهة رئيس الجمهورية المبجّل، وقد يكشف منظور آخر أنّ هذه الضغوط أسكتت الرئيس وأرهبت مَن دونه في مراتب المسؤولية والحياة السياسية والشخصيات العامّة في جمهورية الألب؛ ولقّنتهم درساً لن يَنسَوْه في عواقب إظهار مواقف تضامنية على هذا النحو.

ينزعج بعض العرب، لأسباب شتى، من النقد الموجّه إلى منسوب الامتثال لحرية التعبير في بيئات أوروبية شتى، وقد يشيرون إلى شواهد لا تخطئها العين من واقع هذه الحرية وما تحظى به مكوِّنات متنوِّعة في فضائها من مكتسبات وامتيازات

يتحرّى هذا المثال الرئاسي طرائق تفرض على بعض جماهير الديمقراطيات أن تُمسِك عليها ألسِنَتَها خشيةَ البوْح بما يعتمل في ضمائرها؛ إنْ تصادَم هذا مع اتِّجاهات سائدةٍ ونزعاتٍ مُهَيْمِنة على مجتمعاتها. يشتدّ الضغط الناعم على حرية التعبير مع الصعود الاجتماعي في مراتب الحياة العامّة والسياسية والإدارية؛ خشية أن يتدهور أحدهم بمفعول كلمة غير محسوبة العواقب أو موقف غير مدروس التّبِعات. وقد يُقال في تبرير هذا المنحى إنّ "الحرية تقتضي المسؤولية!"، وهذا صحيح من وجه معيّن، لكنّ المسؤولية عينها تبدو مغيّبة مع حرية المنجرفين مع نزعاتٍ جامحة في التعدِّي على مكوِّنات مجتمعية منبوذة أو التنكّر لمبادئ مقرّرة؛ لمجرّد أنها لا تتفق مع منطق المصالح السائد.

 

إنّ انصراف السياسيين إلى استطلاعات الرأي وانشغالهم بصناديق الاقتراع يفرضان عليهم أن يتملّقوا المزاج الجماهيري ويداهنوه، وأن يَحذَروا السِّهام الإعلامية التي قد تُطارِدُهم ويَحتَموا منها، بما يردَعهم عن تعبير حرّ رأوا عواقبه مع غيرهم. من شأن هذا أن يُفَسِّر ميْل القابعين في مواقع المسؤولية التنفيذية ومقاعد الحياة النيابية في ديمقراطيات أوروبية وغربية؛ إلى كبْت قناعات شخصية أو تورية تفضيلات ذاتية، خشية أن يجرّ التعبير الحرّ عنها تفريطاً في مسيرة طامحة عبر مسالك الحياة العامّة. يبدو مفهوماً، إذاً، أن يقول أحدهم في خواتيم ولايته ما لم يجرؤ على البوْح به في طولها وعرضها، وأن يستردّ بعد مغادرة منصبه حريّةً سلبها إيّاه المنصِبُ المرموق؛ فيصرِّح بما احتبَسَه في صدره ردحاً مِن زمن. 

 

هل يجوز انتقاد الواقع الأوروبي؟

تكبح أنظمة الاستبداد حرية التعبير بأساليب قاسية وذرائع فجّة، وقد يدفع إنسانُها ثمنَ التعبير الحرّ غالياً من سلامته وكرامته وامتيازاته؛ حتى قبل أن يشرع في البوْح أحياناً. أمّا الأنظمة الديمقراطية فتكفل حرية التعبير حتى لمناهضيها، وترفع هذه القيمة عالياً وتنقشها في ألواح التمجيد وتمنح الجوائز والأوسمة باسمها، بما يُغري بتشكُّل صورةٍ حالمة عن واقع هذه الحرية في أوروبا مثلاً؛ لدى الذين لم يُمعِنوا النظر في الواقع ولم يباشروا قراءة المشهد بنظرة عمودية تسبر أغواره وتتجاوز المنطق السطحي المتنازل عن روح التمحيص والحسّ النقدي.

 

ينزعج بعض العرب، لأسباب شتى، من النقد الموجّه إلى منسوب الامتثال لحرية التعبير في بيئات أوروبية شتى، وقد يشيرون إلى شواهد لا تخطئها العين من واقع هذه الحرية وما تحظى به مكوِّنات متنوِّعة في فضائها من مكتسبات وامتيازات. ولا يتّضح مسوِّغ الامتناع عن نقد تجارب راسخة، والتحسّس من الفحص والمناقشة؛ وهي التي تضمن في مواثيقها أساساً حرية التعبير الناقد. ينطوي الانزعاج المتسرِّع على وجوه متعددة من الخلل المنهجيّ في النظر والتعسّف الجسيم في التقدير؛ إذ يحاول أصحابه البرهنة على جوْدة الالتزام بحرية التعبير بشواهد تبدو مؤيِّدة لمنطقهم، لكنّهم يتغافلون عن وقائع تنتهك هذه الحرية بوضوح أو تضيِّق عليها في ثنايا البيئات الأوروبية، أو لعلهم لم يدركوا شيئاً منها. 

من المصارحة القوْل إنّ البيئات والأنظمة التي تسمح بتجاوزات وإن قلّت؛ تبقى أنظمةً تسمح بها وقد تتهاون مع عواقبها وتبعاتها. وتبقى الانتهاكات والتجاوزات نسبيّة وتُقاس بالنظر إلى طبيعة أنظمتها وواقع بيئتها، بما يشير إلى تعسّف المقارنات الشكلية بين بيئة وأخرى. ومن أمانة التشخيص الإشارة إلى أعراض سلبية تتناسخ شواهدها بما يقدح بجودة الامتثال السابغ لحرية التعبير، وأنها تؤشِّر، بوضوح، إلى منحى مُقلِق من الضمور القيمي والتراجع المبدئي تُذكيه ثقافة خوْف ونزعة تخويف من أحداث وتطوّرات وتفاعلات؛ تستبدّان بمنصّات سياسية وإعلامية وشبكية وغيرها. ويبقى تجاهُل الأعراض المتفاقمة في أيِّ واقع كان؛ وصفةً مشجِّعة لاستشرائها والتهاون معها. لا يبدو أنّ بعض العرب اجترؤوا على فحص واقع حرية التعبير في ديمقراطيات أوروبية وغربية، وقد يعدّون المسألة ترفاً لانشغالهم بفوارق ملموسة في حرية التعبير بين ضفاف المتوسط. من شأن هذا المنطق أن يتهاون مع التجاوزات بدعوى ما يفوقها في بيئات أخرى، وهي متواليات تجنح إلى منطق "وماذا عن؟" أو Whataboutism الذي تنزلق معه المداولات إلى متاهة لا تلوي على شيء، فلكل انتهاك ما يعلوه في مكان ما ولكل تجاوز ما يفوقه في رقعة أخرى، بما يبدو خياراً مثالياً للإسكات والتهاوُن مع تجاوزات محتملة في واقع معيّن؛ بدعوى أنه مهما بلغ من مبلغ يبقى دون ما يجري في بقعة أخرى مُفترَضة.

 

إنّ الإحجام عن النظر الفاحص خشية انقشاع هالة انطباعية حالمة لا يُعين على فهم الأنظمة ومنطق اشتغالها، ومن شأنه أن يسدّ نوافذ الإحاطة بواقع عالمي مترابط، وأن يُنشئ تصوّرات وهمية عن فردوس أرضي لا مكان له في واقع عالمنا، وأن يُبقي على أَلَق المبادئ في هيئة شعارات محنّطة في الرؤوس تعجز معها عن الاتِّصال بالواقع. يبدو أن بعض القوم المتنازلين عن التمحيص جرّبوا شيئاً من الواقع بعد أن أقدمت منصّات شبكية تنتمي إلى بيئات تتباهى بحرية التعبير؛ على حجْب حساباتهم ذات صباح في مواقع التواصل، فأهالت التراب على وجودهم في "العالم الأزرق" بسبب منشور أو صورة أو كلمة أو وَسم، فطفقوا يعلنون تذمّرهم من "التعسّف" الذي يعدّونه برهاناً على "ازدواجية المعايير" و"خرق المواثيق الدولية" و"انتهاك حقوق الإنسان" و"المساس بحرية التعبير"،.. وبقية الشكوى معروفة مألوفة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.