شعار قسم مدونات

"موضة الحجاب".. استهلاك مادي للقيم الدينية والروحية

BLOGS حجاب

قبل أن يبدأ إيقاع اليوم بالتسارع، في كُلِّ صَباحٍ، أتصفح بعض مواقع التواصل الاجتماعي كإنستغرام وفيسبوك. لا أُخفيكُم أنني أصطدم بشكل شبه يومي بصور لفتيات أنيقات، يرتدين أجمل الثياب ويضعن الحجاب أيضا، مع بروزِ بعضِ خصلات الشعر المُنسَدِلَةِ من الحجاب بينما تبدو أُخريات بحجاب "نص كم" حرفيا. أتساءل في كل مرة أرى فيها صورا شبيهة، ما هي الغاية من الحجاب إذن؟ تقودني هذه المُطالعات اليوميّة لموضة الحجاب إلى التساؤل حول فلسفة وخصوصيّة ارتداء قطعة قماش على رأسي تسمى "حجاب"! لا أظُنُّ أن أحدًا يفترِضُ أنني سأُناقِشُ الأسبابَ الشرعية والدينية بما في ذلِكَ الشّروط الشّرعيّة لصحة الحجاب، فلا سَبيلَ لي إلا ترك هذا الأمر لأهل الاختصاص الشرعي لأنني للأسف لست منهم. لكنّ موضوعي سيُركّز على إبراز وجهة نظري الاجتماعية والإنسانية لفكرة الحجاب، والحجاب الإنستغرامي على وجه التخصيص.

يعتبر الحجاب مطلبا شرعيا إسلاميا وحين نقول شرعيا فإن تطبيقه يستوجب انصياعا تاما لمتطلبات الشارع، والقصد بذلك، أن نلتزم بالأمر كما طلب مصدر هذا الأمر أن يكون. وهذه بديهية ومسلمة من مسلمات الشريعة الإسلامية، إذ إن المَنطِق يقول، إمّا أن ألبَسَ على هوايَ وإمّا أن ألبِسَ على مُراد الشّارِعِ، فلإن لبِستُ الحجاب متابعةً لهوايَ، فالتَزم شروط الهوى، وإن لبِستُهُ متابعةً للشارِعِ، فألبِسُ ملتَزِمًا بشروط الشّارع. جميعنا يعرف تلك القاعدة الشرعية التي تتحدث عن شروط الحجاب الإسلامي الصحيح. ولكن مع هذا التنوع الكبير في صور وأشكال الحجاب أصبح التطابق بين القاعدة والتطبيق أشبه بالمستحيل، وأصبح شكل الحجاب الذي من المفترض أن يكون ساترا أصبح من أكثر ما يلفت نظرنا سواء في انستاغرام أو غيره. كُلّ ما تقدّم كان توصيفًا وتوظيفًا ولم يكُن تحليلًا واستنتاجًا، والأهم من التوصيف هو التّوظيف، وأبدأ بسؤال: لماذا تشكلت هذه الصورة عن الحجاب؟ في الحقيقة يقودني هذا التساؤل الى تساؤل أكبر، ما هو السبب الذي يلزمنا بأمر معين ويجبرنا بملازمته مع أننا نعرف حق المعرفة أننا لسنا نلتزم بضوابطه المطلوبة؟

الحجاب كالتزام اجتماعي ديني
التهاون بصورة الحجاب وإنزالها إلى منحدر الاستهلاك البغيض للقيمة الروحية والدينية أدى إلى نتائج عدة أخطرها أن قيمة الحجاب كفرض ديني يسبقه تطهير نفسي وإعداد ديني ونفسي للالتزام به قد اختفت وحلت مكانها قيمة الاستهلاك

يعتبر الحجاب من العبادات الاجتماعية بمعنى أنها قانون إسلامي شرعي لتنظيم الحياة الاجتماعي. لا أريد أن أحصرها في مفهوم الستر وغض البصر فقط، مع أنني لا أقلل هنا من غايتها في حفظ النفس وإقصاء صورة الجسد فقط. إلا أن الحجاب يشكل مفهوما أكبر من أن يتم تقييده وإدراجه تحت ستر الجسد وحسب. الحجاب هوية دينية وحضارية تحمل بين طياتها الكثير من المعاني التي تعبر عن أهمية الإنسان والنفس البشرية مقابل الصورة المادية المجردة. تعتبر "موضة الحجاب" أو الحجاب فاشن حسب ما يطلق عليها رواد مواقع التواصل الاجتماعي صرعة من صرعات الحداثة التي شكلت وجها جديدا لمفهوم هذه العبادة ولصورة المرأة المسلمة. لا أدعي طبعا أن هذه الموضة لم تكن موجودة من قبل أن يسيطر إنستغرام وفيسبوك على حياتنا ولكننا أصبحنا مأخوذينَ بِما تمليه علينا بسبب أن تواصلنا دائم معها في ظل هذه التقنيات.

تظهر الكثير من فتيات الحجاب في وسائل التواصل الاجتماعي بمظهر يجرد الحجاب من كل هدف ديني وهوياتيّ، مما يكسب الحجاب مع الأسف صبغة مادية صرفة تنفي البعد الروحي والديني للحجاب. ولأن مواقع التواصل تعتبر امتدادا للعولمة التي هي بالتالي امتداد للأفكار والفلسفات التي نشطت في القرن الثامن عشر وتطورت في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، حيث تنص أغلب هذه الفلسفات المادية والطبيعية على تشييء الإنسان وتجريده من نزعته الإنسانية الروحية وتحويل الجسد إلى وعاء وأداة لا تحتوي أي قيمة وجدانية أو روحية. ومن أخطر ما أفرزت هذه الفلسفة التي تسربت إلى مجتمعاتنا الشرقية من الحضارة الغربية، سواء أأدركنا ذلك، أم لم ندركه، أنها شكلت نموذجا حضاريا استهلاكيا، لا يحمل فيها الإنسان أي عبئ أخلاقي ولا ذاكرة تاريخية، تتحول كل القيم فيها إلى أشياء يمكن استهلاكها كالهمبرغر والأكل السريع.

تأثرت صورة الجسد الإنساني التي تقصي الإنسان وتظهر الجسد والعضلات والقوة مقابل تغييب البعد التاريخي والحضاري والقيمي لجسد الإنسان. وإنني أرى أن ما نشأ في الغرب من حضارة مضادة للإنسانية (بمعناها الروحيّ) نعاني نحن منه الآن أيضا جراء تفشي الصور والنماذج المعرفية الغربية بعد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الحجاب مجرد شيء، موضة، وصورة لفتاة جميلة ترتديه من دون أي قيمة معنوية أو دينية تنطبق عليه. لقد تحول الحجاب إلى سلعة استهلاكية وإلى صورة جميلة هنا أو هناك، ليس الهدف منه سوى جني الأرباح المادية وفق النموذج الرأسمالي الذي يسيطر علينا جميعا. وهذا أخطر ما في هذه الصرعة أو الموضة حيث تحاكي هذه النماذج رغبة الفتيات في الظهور بأجمل صورة والشهرة عبر مواقع التواصل والانفلات من قيد الشرع الذي يفرضه عبر الحجاب. والّذي أقصدُهُ هنا، أننا سلّمنا صورتنا للميك أب الغربي، يصنعها على عينِه ويوجهها إلى عُمقِهِ، حتّى عرّينا رموزنا المُجتمعيّة والدينية من عمقها الحضاري الإسلامي والعقائدي التعبُّدي.

ولا يظن القارئ أنني أقول بأن يكون الحجاب بشعا ليكون شرعيا كما يجب، بل إنني من أكثر المُهتمّات بالأناقة والصورة الحسنة التي من المُفترض أن تظهر المرأة المحجبة بها. ولكنني أتحدث عن تحويل الحجاب إلى مجرد سلعة تسويقية وجمالية وتفريغه من قيمته الدينية. أُقرُّ أن هذه المقالة رأيٌ لا يستندُ إلى إحصاءاتٍ علميّةٍ أو مرجع موثق ولكنني أرى من قراءتي وحدسي لواقع ومستقبل المجتمع المسلم وبالذات فتيات الحجاب، أن موضة الحجاب مهّدت الطريق بشكل كبير جدا إلى موجة خلع الحجاب خاصة أن عددا لا بأس به ممن يعتبرنَ "مؤثرات" قمن بنزعه تحت ادّعاء أنها حرية شخصية، وذلِكَ بعد حالةٍ من التّدرُّج في هويّةِ الحِجاب، بدءً من الحجاب الإسلاميّ إلى الحِجابِ العولميّ. والعجيب أنها خلعت الحِجاب، بعد أن كان حِجابُها المُعولَم أو "موضة الحجاب" هو السبب في وصولها إلى الآف المتابعين الذين يرددون ويطبقون ما تمليه عليهم هذه "الملهمة".

نعم إن التهاون بصورة الحجاب وإنزالها إلى منحدر الاستهلاك البغيض للقيمة الروحية والدينية أدى إلى نتائج عدة أخطرها أن قيمة الحجاب كفرض ديني يسبقه تطهير نفسي وإعداد ديني ونفسي للالتزام به قد اختفت وحلت مكانها قيمة الاستهلاك والصورة. حيث أصبح حجاب "نص كم" يسهل خلعه متى ما وجدت الفتاة أنها ملت من هذه العبادة. ونتيجة لذلك فإنها شوهت الصورة الحقيقية للحجاب وأحدثت بلبلة في كيفية فهم جيل بأكمله لفلسفة الحجاب والغاية منه. ثم إنني سمعت من أكثر من صديقة غير محجبة أنها لم ترتدي الحجاب إلى الآن لأن الحجاب بصيغته الحالية لا يُعبّر عن هويّةٍ دينيّةٍ أو اسلاميّةٍ ذات نمط خاصّ بها. لا أقول أن وسائل التواصل هي السبب الوحيد لخلع الحجاب، ولكنها ساهمت، بلا شك، في ذلك ونشرته كما تنتشر النار في الهشيم، وسوغت الأمر وجمّلته بحيث قدّمته بإطار الحرية الفردية، متناسين بذلك أو جاهلين أن النظام الذي يفرضه الدين الإسلامي هو نظام شمولي، لا يصح أن ننتقي بعض ما يعجبنا ونترك بعضه لأننا بذلك نفسد التوازن الذي هو في صلب الدين الإسلامي.

أعتقد، جازِمةً أن أي تطبيق لأيّ قاعِدَةٍ لا بد وأن يكون تطبيقا وسطيا وهذا بالضبط ما يتحدث عنه الإسلام، إن الله جميل يحب الجمال، وحسن الثوب وأناقته مطلب إسلامي لا بد منه، ولا أنفي هنا حاجتنا نحن النساء إلى التزين والظهور بأجمل صورة فقد راعى الإسلام ذلك ولم يفرض علينا قيودا مستحيلة التطبيق في ارتدائنا للحجاب فلا إفراط في إلقاء الأوامر والتضييق على المرأة المحجبة ولا تفريط، ولذلِكَ فإنَّ الحِجاب الإسلامي، هو حِجابٌ غرضُهُ أن لا تجعل المرأة من محلّ زينتها عُرضَةً للمُباهاةِ والعرض، يشمل ذلِك، خصال الشعر ويشمل الذراعين والساقين، إذ إن التهاون في الفرع، كالتهاون في الأصل، لأنّ منبع الاستهانة واحد، وهو عدم الإيمان بعلويّة المُشرّع وحقّه في الأمر والنهي. إن ما نراه اليوم من تشمير وكشف لخصل الشعر وللساقين هو تشيءٌ للمعاني الروحيّة في التديّن، وتطبيعٌ فيزيائيٌّ لمعانٍ تستعصي على الحسابات الرياضيّة، بل محلُها فضاءات الجمال الروحيّ، والتسامي عن النّزق الماديّ والتحرُّر من نيرِ الاستعباد الغربيّ العولميّ. وذلك لا أن يكون الدافع الأساسي والمحرك وراء ارتداء الحجاب والالتزام به. فقيمة الحجاب ليست بصورته فقط، إنما بكونه هوية ومطلبا شرعيا دينيا لا بد أن يطبق بأصوله كأي عبادة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.