شعار قسم مدونات

الحُبّ.. عاطفةٌ مباغتة أم بناءٌ عريق

blogs الحب

لربما أننا نختزن تعاريفَ وتصورات عديدة للحُب إلا أنني أرى الحُب دائماً بناء ذو عناصر، لا يكتمل إلا بتحقيقها. قبل أن آتي إليه آتي على نقطتين أخريين: الأولى وتلك التي أسبّح الله كثيراً عند استذكارها وهي أن أكثر ما يستميلُ الإنسانَ هما نقيضين تماماً، أولهما تمكينه وتطوره المفضي إلى عِزتِه، وثانيهما شهوته المفضيةُ حتماً إلى ذلّته، أمّا أكثرُ الناسِ بؤساً هو الذي يستغلُّ الأولى لتحقيقِ الثانية والحالُ أنه لن ينجح بها غالباً؛ فهذه الدُنيا كشّافة فضّاحة -هذا غير أن المعادلة المنطقية الشارحة للبحث عن التمكين لأجل التمكين ما خلف مساواتها موجبٌ غالباً إذا أتقنّا ترتيب حدودها، أمّا المعادلة المنطقية الشارحة للبحث عن التمكين لأجل غيره فما خلف مساواتها صفريٌّ أو سالبٌ غالباً وشرح المعادلات هذه أظنه يطول-، بيدَ أنه ولو أفلت من ويلات سقطاتِ الدُنيا فما هو بمفلتٍ من ويلات عذابات الآخرة.

الشاهدُ هنا أن للعلاقاتِ من هذا نصيب، شِقٌ منها يُصَنَّفُ مُمَكِّناً للإنسانِ ومطوّراً له وهو (الحُبُّ) حتماً ويفضي لعزته -حيثَ أن الحُب عندي لقداسته لا يمكنُ أن يحملَ سوى وجهٍ واحد كريم طيب وأما غيره من المشاعرِ التي يُظن أنها حبٌ ويحكى بها على أنها حبٌ فيه خلل أو فساد فهي ليست بحب أصلا، كقولِ أن هناكَ إسلام وإسلام متطرف أو منحرف فما صدقوا والإسلام واحد- وشِقٌ آخر مدمر للإنسان وهو حتماً (شهوته) المفضيةُ إلى ذلّته. ليكونَ الحُب حباً أرى أن من شروطهِ الخُلطةَ وذلكَ للتأكد من سلامة أركانه الـ (ما بعديّة للإلتفات) وهي عندي أربع:

١. اتساقُ المحتوى الفكري (الآيديولوجيا، الخُلق، الدين، السياسة)
٢. اتساقُ مستوى التفكير (الفهم، المرونة، الاطلاع، المهارة، الطموح)
٣. اتساقُ المستوى المعيشي (المادي)
٤. اتساقُ الطبيعة الاجتماعية (العادات، التقاليد، السلوك المعيشي، …)

علينا أن نطور من سلوكنا الاجتماعي الذي يسمح لأبنائنا بالتحقق من خياراتهم بطريقةٍ تضمن سلامة ما بعد الاختيار، واستيعاب تبدّلات العصر وتطوراته، وإلا فإننا جميعاً مسؤولون عن أي حالة تشرذم وتباعد وتمزقٍ وإرهاق للقلوب

وللتوضيح أعني بالاتساق هنا عدم تواجد المتضادات الغير قابلة للقبول من أحد الطرفين، ولا أعني التشابه أو التطابق، بل أعني إمكانية الامتزاج إذا ما حصل، فلا يحدث الصدام بينهما مما يوقف العلاقة ويدمرها، أو يبقيها ميتةً تحت حر شمس الحياء من المجتمع! فمثلاً: من الممكن جداً إذا لم يتحقق الشرط الأول أن يختلف الطرفان في يوم من الأيام على بعض القيم أو السلوكات التي قد تدمر المنزل، فإن كان الأب والأم من خلفيتين مختلفتين فمن الممكن لقضية تحجيب أول طفلة أن تكون كفيلة بتمزيق المنزل، أو أي قضية فكرية أو سياسية أُخرى!

ومن الممكن لطرفين من مستويات عيش متباعدة جداً أن يصتدم أحدهما بطريقة عيش الآخر، فمصروفات رحلةٍ ما، أو سعر مجموعة أدوات للمطبخ قد تشكل صدمة وإزعاجاً لطرف ما وقد يرى فيها تهوراً وتبذيراً ويرفضها بقوة ويراها طرفٌ آخر شيء في غاية العادية! ومن الممكن لطرفين من بيئتين مجتمعيتين مختلفتين أن يختلفا على سلوكات معينة، أو نمط معيشي معين، فقد يرفض أحد الطرفين نظام العائلة المركبة أو تدخل أحدٍ في شؤون إبناءه، بينما يراه الآخر أو أسرته حقاً وواجباً!

من هنا كان من الضروري أن يتأكد كلا الطرفين من إمكانية وجودهما معاً، في بيئة صحية مستقرة، فما يجري عادةً أنه يُلفتنا أحدهم بِحديثه أو جَماله أو مَكانته أو حتى ذكرياتنا الجميلة معه.. ولا نعلم ما خلف ذلك، فإن حَصل هذا ثم تَخالطنا معه ووَجدنا الأركان الأربعة مَوجودة تطور الأمر من الإلتفات إلى الإنجذاب والميل، فإذا تَحقق هذا وتصارح الطرفان به، واستعد كل منهما للتضحية من أجله، وكان فيه شيءٌ من الإخلاص له لذاته صارَ هنا (حبّاً) مُؤهلاً للزواجِ، فمُمكناً للإنسانِ في حياته باستقراره وراحته، أما غير ذلك مما يجري من التفاتاتٍ دافعها الشكل أو المال أو الجميل من القول، أو الوَنَس فهذه كلها ملفتاتٌ إذا لم يُسأل عن ما بعدها من الأركان صارت شهوةٌ لذاتها، كاشتهاء الشكل أو المال أو الحديث أو… إلخ.

وجديرٌ بالذكر أيضاً أن التخالط في الفضاء الوهمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لا يعد تواصلاً برأيي ولا خلطةً ممكنة من اكتشاف الآخر؛ فهو لا يزيد الأمر إلا تضليلاً ولا يظهر لك حقيقة من هو في مقابلك، فكثرٌ هم من أبطال وملائكة السوشل ميديا يكونون شيءً مختلفاً في الواقع، لا أقول أنهم يكونون غير أهل خير؛ إلا أنهم لن يكونوا كما توقعنا بأنهم مناسبون لنا.

المشكلة في نِظام العائلات -ويؤسفني أن هذا رائج في العائلات الملتزمة والمحافظة: دينياً أو اجتماعياً- أنها لا تمكّن من الاختلاط المعقول المنطقي الذي لا يخلُ بخُلقٍ ولا إنسانية؛ فهي لا تتيح لأفرادها التحقق من الأركان التي توصل إلى الإنجذاب والتي إن أفضت إليه وتصارحوا فيه أفضى إلى الحُب والزواج السليم، والأكثر كارثيّة هو تلك الوعودات التي تُصرفُ جزافاً نتيجةً لهذا؛ فتُعَلِّقُ القلوب دون أي منطقية أو عقلانية، وهذا نتيجته تدمر كليهما في حال عدم قدرة أحدهما على الإيفاء بهذه الوعود.

إذاً من الجدير بالذكر هنا أن علينا أن نطور من سلوكنا الاجتماعي الذي يسمح لأبنائنا بالتحقق من خياراتهم بطريقةٍ تضمن سلامة ما بعد الاختيار، واستيعاب تبدّلات العصر وتطوراته، وإلا فإننا جميعاً مسؤولون عن أي حالة تشرذم وتباعد وتمزقٍ وإرهاق للقلوب جاءت من عدم قدرتنا على تطوير فهمنا لطبيعة علاقات اليوم، وكسلنا وتقاعسنا عن الشروع بتطوير أدوات تتناسب مع هذا التطور وتحفظ قيم الإنسان وقلبه وأخلاقه.

بالنهاية؛ أنا لم آتي على ذلك النوع من الارتباط الذي تكلّف فيه الأم أو الأخت أو سيدة الحارة بالبحث عن خيار ثم تقرر هي أنه مناسب ثم يكون ذلك الفرد بالعامية "شايل الليلة" لأنه سيكمل حياته بشراكة مع شخص حصل عليه عن طريق نظام اليانصيب! لربما أن هذا كان يفلح في وقت سابقٍ وضمن معطيات مختلفةٍ تماماً؛ ولكنهُ اليوم ما عادَ يفلحُ البتّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.