شعار قسم مدونات

ثلاث رسائل من الهجرة

كان قلبه صلى الله عليه وسلم في وصال دائم مع ربه، امتلأ باليقين في نصره وتوفيقه ومدده (مواقع التواصل الاجتماعي)

صدع النبي الكريم بالحق يوم أمره الله تعالى "فاصدع بما تؤمر"، ومنذ تلك اللحظة نذر الرسول صلى الله عليه وسلم وقته وجهده وما يملك في سبيل هداية الخلق إلى طريق الحق، ووصل قلوبهم بخالق السماوات والأرض، فأشرق بنور الوحي ثلة من الأولين ورباهم على عينه وملأ قلوبهم بمحبة الله وحده، والرغبة فيما عنده وتلمس مراضيه، والرهبة من جنابه ومغاضبه، وناله صلى الله عليه وسلم من الأذى الكثير، وأصاب رفاق دربه ألوانا من العنت والتضييق والعذاب.

ولما ضاقت مكة برسالته وأغلقت في وجه دعوته أبوابها، هيأ الله تعالى لدينه أرضا جديدة وقلوبا متلهفة، وعقولا قد استضاءت بنور القرآن، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من آمن معه بالهجرة إلى المدينة المنورة " أرسالا" أي مجموعات، وترك الصحابة قصصا عظيمة في التضحية، حينما فارقوا أرضهم وأموالهم وأهلهم في هجرة ستغير وجه التاريخ الإنساني إلى يوم الدين، وفارق النبي مكة وهو مجروح القلب ملتاع الفؤاد.

ما أحوج الأمة الآن في كل مكان، وما أحوجنا أن نمتلك مفردات الأسباب: التخطيط، الدقة، احترام الوقت، النظام، النظافة، جودة الأداء، فن الإدارة، ثم نجمع في المستوى نفسه مفردات التوفيق والسداد

المسلم بين التأييد الإلهي وقانون الأسباب

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى في "فقه السيرة": "ولا نعرف بشرا أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعنى التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله".

لو تتبعنا جميع مراحل الهجرة النبوية سيتجلى لنا بدقة ووضوح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يترك للأمة دروسا عظيمة من هجرته في الجمع بين احترام قانون السببية مع جمع القلب على الله تعالى بكليته، كان يمكن أن تكون الهجرة معجزة لكن كانت معاناة وجهدا كبيرا وركوب مخاطر ضخمة، لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم للمصادفة والعشوائية سبيلا، إنما قام بإحكام الخطة ودقة التدبير والترتيب.

ومع هذا كان قلبه في وصال دائم مع ربه، امتلأ باليقين في نصره وتوفيقه ومدده، ولما انطلق المشركون يطاردونه وصاحبه في جنون، وبعد بحث بين شعب الجبال والأودية وصلوا ووقفوا أمام الغار الذي تشرف بضم جسد النبي الطاهر الكريم والصديق أبو بكر، وحين انتفض قلب أبي بكر خوفا على حبيبه وسيده وسيدنا وحبيبنا ظنه بالله جميل حيث قال له مطمئنا "لا تحزن إن الله معنا".

ما أحوج الأمة الآن في كل مكان، وما أحوجنا أن نمتلك مفردات الأسباب: التخطيط، الدقة، احترام الوقت، النظام، النظافة، جودة الأداء، فن الإدارة. ثم نجمع في المستوى نفسه مفردات التوفيق والسداد: اليقين، الثقة في الله، الافتقار لله، كثرة التضرع والدعاء، صدق القلب مع الله، التوكل على الله.

صاحب الرسالة دوما، تعيش دعوته في قلبه وتتحرك بها جوارحه ولا يملك العقل إلا أن يعطى الأمر بالتعريف بها أينما ذهب وحل وارتحل

الرسالة هي الحياة

الناس في الحياة مذاهب، تصرفهم نحوها وينصرفون لها، ذلك لأنهم وجدوا فيها قرة العين ومهوى الفؤاد، ومن أجلها يبذلون وينفقون ويصبرون، وكانت غاية الرسول صلى الله عليه وسلم التي ملكت عليه قلبه وسكنت روحه هي إسعاد الخلق بتعريفهم بالخالق وحقه عليهم، قرة عينه استقامة الناس على أوامر الله، ولذلك لم يترك فرصة للدعوة إلا استفاد منها وهو في طريق هجرته الشاقة في صحراء حارقة.

وهكذا صاحب الرسالة دوما، تعيش دعوته في قلبه وتتحرك بها جوارحه ولا يملك العقل إلا أن يعطى الأمر بالتعريف بها أينما ذهب وحل وارتحل، لم تلن عزيمته، ولم تضعف إرادته، ولم تغلبه الضغوط، ولم تصرفه عن رسالته أساليب الترهيب أو الترغيب، ويا له من درس للدعاة وللمسلمين حول العالم في الاعتصام بحبل الله، والتوكل على العزيز الرحيم، وتعلق القلب به وحده لا شريك له مهما كانت التحديات والصعوبات التي تعترض حياتنا.

عاش الصحابة في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبدلهم الله خيرا، وبعد سنوات أصبحوا في الخير قادة، وفي ميادين الدعوة أئمة الهدى

للمهاجرين حول العالم

الذين فارقوا ديارهم وأهلهم إلى أصقاع الدنيا، ورغم ألم الفراق ووحشة البعد وطول السفر، نقول: "لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير" وإن بدا غير ذلك، احتسبوها عندها هجرة في سبيله كمن سبقكم من الصالحين، والدنيا راحلة، والتعب والنصب عندها سيزول، وعند الصباح يحمد القوم السرى، وهنيئا لكم التأسي بالمهاجرين الأولين رضى الله عنهم، فقد ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوطانهم وفارقوا ديارهم وحيل بينهم وبين أهليهم وأحبابهم، ولا ريب أنهم كابدوا مرارة البعد والحرمان، لكن سرعان ما تجاوزوا تلك المحنة بفضل التهيئة القرآنية لهم أن الأرض كلها لله وأن المسلم يجب أن يكون مع الله في كل مكان، والكون كله محراب للعبادة وميدان للدعوة قال تعالى: "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون" (56) العنكبوت.

ثم بشر الذين خرجوا من ديارهم في سبيل الله جل في علاه بحسنى العاقبة وخير الدنيا والآخرة. "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" (41) النحل. أبعد هذا الوعد يبقى المؤمن في حزن أو قلق؟ ثم عاش الصحابة في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبدلهم الله خيرا، وبعد سنوات أصبحوا في الخير قادة، وفي ميادين الدعوة أئمة الهدى ودانت لهم الأرض وهدى الله بهم القلوب وأنار بعلمهم العقول، فلنستقبل أيامنا بعزيمة على الرشد، وثبات في الأمر، وإرادة على تجاوز الصعوبات. ومن الله العون والسداد، وهو ملهم الهدى والرشاد، عليه توكلنا وإليه المآب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.