شعار قسم مدونات

إثبات وجود الخالق… حقيقة راسخة وحجة في وجه الملحدين (2)

blogs فضاء
أولا ـ دليل الأنفس:

قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ *} [الذاريات :21] ولما كان أقربُ الأشياء إلى الإنسان نفسَه، دعاه خالقُه وبارئُه ومصوّرُهُ وفاطرُه مِنْ قطرةِ ماءٍ إلى التبصُّرِ والتفكُّرِ في نفسِه، فإذا تفكّرَ الإنسانُ في نفسِه، استنارت له آيات الربوبيّةِ، وسطعتْ له أنوارُ اليقينِ، واضمحلّتْ عنه غمراتُ الشكِّ والريب، وانقشعتْ عنه ظلماتُ الجهلِ، فإنّه إذا نظر في نفسِهِ وجدَ اثارَ التدبيرِ فيه قائماتٍ، وأدلّةَ التوحيدِ على ربِّه ناطقاتٍ، شاهدةً لمدبّره، دالةً عليه، مرشدةً إليه. وإليك بعضُ البراهين العلمية المتعلّقة بالإنسان وخلقه:

  

1 ـ الإحساس والجلد:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء :56] وهـذه حقيقةٌ كونيةٌ، وهي أنَّ موطنَ الإحساس والألم في الإنسان هو الجلدُ، فالكافرون يعذَّبون عن طريق تبديل الجلد أو تغييره، وذلك ليذوقوا العذابَ، فالإذاقةُ حسب القرآن الكريم محلُّها الجلدُ، وقد بيّنَ التشريح المجهري للجلدِ أنّه عضوٌ غنيٌّ بالأليافِ العصبيّةِ، التي تقوم باستقبالِ ونقلِ جميعِ أنواعِ الحسِّ من المحيط الخارجي، وذلك عن طريق طبقاتٍ الجلدِ (البشرة، الآدمة، النسيج تحت الآدمة) وهي تنقلُ حِسَّ الألم، والحرارةَ والبرودةَ، والضغطَ، وحِسَّ اللمس، فالقرآن ينبّهنا إلى هـذه الحقيقة، ويقول: إن الله سبحانه كلّما أرادَ أن يذيقَ الكفارَ مزيداً من العذاب بدّلَ جلودَهم التي احترقت وماتت فيها الأليافُ العصبيّةُ بجلودٍ سليمة لم تحترقْ، ليذوقوا العذابَ مرّةً أُخرى، وعندما يأتي التشريحُ المجهري، ليقول: إنَّ الأليافَ العصبيَّة تكمنُ في الجلدِ نقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بهـذه الحقيقة في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً.

  

2 ـ البصمات وتحديدها لهوية الإنسان:

قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلََّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ *} [القيامة :3 ـ 4] لقد توصَّل العلمُ إلى سرِّ البصمةِ في القرن التاسع عشر، وبيّنَ أنَّ البصمةَ تتكوَّن من خطوطٍ بارزةٍ في بَشْرَةِ الجلدِ، تجاورها منخفضاتٌ، وتعلو الخطوطَ البارزةَ فتحاتُ المسامِّ العرقية، تتمادى هـذه الخطوطُ وتتلوّى، وتتفرّعُ عنها تَغَضُّناتٍ وفروع، لتأخذَ في النهاية وفي كلِّ شخص شكلاً مميّزاً، وقد ثبتَ أنّه لا يمكِنُ للبصمة أن تتطابقَ وتتماثَل في شخصين في العالم، حتّى في التوائمِ المتماثلةِ التي أصلُها مِنْ بويضةٍ واحدةٍ، يتمُّ تكوّن البنان في الجنين في الشهر الرابع، وتظلُّ ثابتةً ومميّزةً له طوالَ حياته، ويمكن أن تتقاربَ بصمتان في الشكل تقارباً شديداً، ولكنّهما لا تتطابقان البتةَ، ولذلك فإنَّ البصمةَ تعدُّ دليلاً قاطعاً ومميزاً لشخصية الإنسان، معمول بها في كلِّ بلاد العالم، ويعتمَدُ عليها في تحقيق القضايا الجنائية، لكشف المجرمين واللصوص، وقد يكونُ هـذا هو  السرُّ في أنَّ الله سبحانه وتعالى خَصَّ البنانَ بالذكر، ليبيّنَ للإنسان هـذين الأمرين:

 

نبّه العلماء على كثيرٍ من هداية الله لمخلوقاته، وكتبوا في ذلك كُتباً نافعاً، فتحدّثوا عن هداية الله للنملِ وللهدهدِ والنحلِ وغيرِها من مخلوقات الله الكثيرة

1 ـ السرَّ المختفي في البنان، الذي لم يُعْلَمْ أمرُه إلا في عصر الكشوف العلمية.

2 ـ القدرةَ الفائقةَ على إعادةِ خلق الإنسان بصورته وخِلقته التي كان عليها.

والدعوة مفتوحةٌ للإنسان إلى التفكر في أجهزته العضوية، كالجهاز الهضمي، والتنفسي، والدموي، وغيرها في جسمه، وفي التأمل في عالم المشاعر والأحاسيس والأفكار والعقائد.

 

ثانيا ـ دليل الهداية:

قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى *} [الأعلى :1 ـ 3] وقال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *} [طه :50]، والمقصودُ بالهداية المرادةِ في هذه الآيات إعطاءُ كلِّ مخلوقٍ من الخلق والتصوير ما يصلحُ به لما خُلِقَ له، وإرشادُه إلى ما يُصْلِحُه في معيشته ومطعمه، ومشربه، ومنكحه، وتقلبه، وتصرفه، ومن أسماء الله الحسنى (الهادي) سبحانه وتعالى، الذي يُبصِّرُ عبادَه ويعرّفهم طريقَ الإيمان به، والإقرارَ بألوهيته، ومعرفة طريق بناء الحياة، ومعرفة نواميسها وسننها، حتى هدى الطيورَ والحيواناتِ والهوّام والوحوش إلى ما فيه مصالحها وعيشها، ومحاذرة ما يضرُّها أو يُعْطِبُها.

 

وقد جاء اسم (الهادي) في القرآن الكريم في قوله سبحانه: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا *} [الفرقان :31] وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الحج: 54] .

إنَّها أولاً: هدايةُ المعارِفِ الفطريةِ الضروريةِ لكلِّ مخلوق {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *} [طه :50] .

وهي ثانياً: هداية الإرشاد والبيان التي بَعَثَ بها أنبياءه، وأنزل بها كتبه {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة :24] .

وهي ثالثاً: الأخذُ بالقلوب والعقول إلى مواضع رضاه بالتوفيق والإلهام والحفظ، كما وعد سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس :9] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت :69].

 

وقد نبّه العلماء على كثيرٍ من هداية الله لمخلوقاته، وكتبوا في ذلك كُتباً نافعاً، فتحدّثوا عن هداية الله للنملِ وللهدهدِ والنحلِ وغيرِها من مخلوقات الله الكثيرة، وهـذا بابٌ واسعٌ يكفي فيه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *} [الانعام :38] وهـذه الأمم تعبدُ الله وتسبّحه وتحمده، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الاسراء :44] وقال أيضاً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور :41] .

 

وتأمل معي في كل من:

1 ـ النحل: قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [النحل :68 ـ 69] فانظر إليها وإلى اجتهادِها في صنع العسل، وبنائها البيوت المسدّسة، التي هي من أتمِّ الأشكالِ، وأحسنِها استدارةً، وأحكمِها صنعاً، وتلك مِنْ أثرِ صنع الله وإلهامه إياها، وإيحائه إليها. ثم انظر إلى حسنِ الامتثال، اتخذتِ البيوتَ أولاً، فإذا استقرّ لها بيتٌ خرجت منه، فرعت وأكلت من الثمار، ثم اوت إلى بيوتها، لأنَّ ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً، ثم بالأكل بعد ذلك، ثم إذا سلكتْ سُبُلَ ربها مذلّلةً، لا يستوعِرُ عليها شيءٌ، ثم ترعى، ثم تعود.

  

انتظامُ أمرِ العالم، العلوي والسفلي، وارتباطُ بعضِه ببعضٍ، وجريانُه على نظام مُحْكَمٍ، لا يختلف؛ ولا يفسد: أدلُّ دليلٍ على أنَّ مدبّره واحدٌ لا إله غيره

ومن عجيبِ شأنها: أنَّ لها أميراً يسمّى «اليعسوب» لا يتمُّ لها رواحٌ ولا إيابٌ، ولا عملٌ ولا مرعًى إلا به، فهي مؤتمِرةٌ لأمره، سامعةٌ له مطيعةٌ، وله عليها تكليفٌ وأمرٌ ونهيٌ، وهي منقادةٌ لأمره، متبعةٌ لرأيه، يدبّرها كما يدبّرُ الملِكُ أمرَ رعيتهِ، حتى إنّها إذا أوت إلى بيوتها، وقف على بابِ البيتِ، فلا يدعُ واحدةً تزحم الأُخرى، لا تتقدّم عليها في العبور، بل تعبرُ بيوتها واحدةً بعدَ واحدةٍ بغير تزاحمٍ، ولا تصآدم ولا تراكمٍ، كما يفعلُ الأميرُ إذا انتهى بعسكره إلى معبرٍ ضيّقٍ، لا يجوز إلا واحدٌ واحدٌ.

 

ومن تدبر أحوالها وسياساتها وهدايتها، واجتماعَ شملها، وانتظامَ أمرِها، وتدبيرَ مُلكها، وتفويضَ كلِّ عملٍ إلى واحدٍ منها: يتعجَّب منها كلَّ العجب، ويعلمُ أنّ هـذا ليسَ في مقدورِها، ولا هو من ذاتها، فإنَّ هـذه أعمالٌ محكمةٌ متقنةٌ في غايةِ الإحكام والإتقان، فمنِ الذي أوحى إليها أمرَها، وجعل ما جعل في طباعها؟! ومن الذي هداها لشأنها؟! ومَنِ الذي أنزلَ لها من الطَّلِّ ما إذا جنتْهُ ردّتْهُ عسلاً صافياً، مختلفاً ألوانُه، في غايةِ الحلاوة واللذاذة والمنفعة؟! إنه {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *} [طه :50].

  

2 ـ الهدهد: ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أنْ قال لنبيِّ الله سليمان عليه السلام، وقد فقده وتوعده، فلمّا جاء بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطاباً هيّجه به على الإصغاء إليه، والقبول منه: وفي ضمن هـذا: إنّي أتيتُك بأمرٍ قد عرفتُه حقَّ {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، بحيث أحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن، فلذلك قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ *} [النمل :22] . و(النبأُ) هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه (نبأ يقين) لا شكّ فيه ولا ريب، فهـذه مقدّمةٌ بين يدي إخباره لنبيّ الله سليمان بذلك النبأ، استفرغتْ قلب المخبَر لتلقّي الخبر، وأوجبتْ له التشويقَ التامَّ إلى سماعهِ ومعرفتهِ، وهـذا نوعٌ من براعةِ الاستهلالِ، وخطابِ التهييجِ.

  

ثم كشفَ عن حقيقةِ الخبرِ كشفاً مؤكداً بأدلّةِ التأكيد فقال: ثم أخبر عن شأنِ تلك {إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، وأنها من أجلِّ الملوكِ، بحيث أوتيت من كل شيء يَصْلُحُ أن يُؤتاه الملوك، ثم زادَ في تعظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم، ثم أخبرَه بما يدعوه إلى قصدِهم وغزوهم في عُقرِ دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال: {وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل :24]، وحذفَ أداةَ العطفِ من هـذه الجملةِ، وأتى بها مستقلّةً غيرَ معطوفةٍ على ما قبلَها، إيذاناً بأنّها المقصودةُ، وما قبلَها توطئةٌ لها.

 

ثم أخبر عن المغوي لهم، الحامل لهم على ذلك، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل :24] المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أنّ ذلك الصدَّ حالَ بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ *} [النمل :24] ثم ذكرَ مِنْ أفعاله سبحانه إخراجَ الخِبْءِ في السماواتِ والأرض، وهو المخبوءُ فيهما من المطر، والنبات، والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرجُ من الأرض.

  

إذا تأمّلنا مظاهرَ التسوية في الإنسان رأيناها تبدو في كل عضو من أعضائه، فقد أحسنَ اللهُ خلقَه، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *}

وفي ذكر الهدهدِ هـذا الشأنَ من أفعال الربِّ تعالى بخصوصهِ إشعارٌ بما خصّه اللهُ به من إخراجِ الماءِ المخبوءِ تحتَ الأرضِ، قال صاحب «الكشاف»: وفي إخراجِ الخِبْءِ إمارةٌ على أنّه من كلامِ الهدهدِ لهندسته، ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل :25]، جلّت قدرتُ، ولطفَ علمُه، ولا يكادُ يخفى على ذي الفراسة، الناظرِ بنورِ الله مخايلَ كلِّ شخصٍ بصناعةِ أو فَنٍّ منَ العلم في روائه ومنطقه وشمائله، فما عَمِلَ آدميٌّ عملاً إلا ألقى الله عليه رداءَ عمله.

 

ثالثا: دليل انتظام الكون وعدم فساده:

وانتظامُ أمرِ العالم، العلوي والسفلي، وارتباطُ بعضِه ببعضٍ، وجريانُه على نظام مُحْكَمٍ، لا يختلف؛ ولا يفسد: أدلُّ دليلٍ على أنَّ مدبّره واحدٌ لا إله غيره. قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [الانبياء :22] لو كان في السماواتِ والأرض آلهةٌ تصلحُ لها العبادةُ سوى الله الذي هو خالقُ الأشياءِ، وله العبادةُ والألوهيّةُ التي لا تصلحُ إلا له أي: لفسدَ أهلُ السماواتِ والأرضِ. وهكـذا، فإنَّ دليلَ انتظامِ الكونِ، وعدم فسادِهِ دليلٌ عقلي قويٌ على وحدانيةِ الله، لا تملكُ العقولُ السويّةُ ردَّه، وهي ترى انتظامَ أمرِ السماواتِ والأرض وما فيهنّ، ممّا يدلُّ على وجودِ إلهٍ واحدٍ متفرّدٍ بالخلقِ والتدبيرِ، مما يستوجِبُ صرفَ العبادةِ له دونَ سواه.

 

رابعا ـ دليل التقدير:

قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا *} [الفرقان :2] وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} [القمر :49] وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ *} [الرعد :8] وظاهرةُ التقديرِ تبدو في كلّ ما خلقَ الله عزّ وجلّ في الأرض والسماءِ والإنسان والنبات، والحيوان، فقد نظّم اللهُ أجزاءَ هـذا الوجودِ على أحسنِ نظامٍ، وأدلِّه على كمالِ قدرةِ خالقِهِ، وكمالِ عملِهِ، وكمال حكمتِهِ، وكمالِ لطفِه.

 

خامسا ـ دليل التسوية:

قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *} [النازعات :27، 28] وقال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *} [السجدة 7] . والتسوية: إحسانُ الخَلْقِ، وإكمالُ الصنعةِ، بحيث يكونُ المخلوقُ مهيّئاً لأداءِ وظيفته، وبلوغِ كماله، المقدَّر عنه، وجعله مستوياً معتدلاً متناسبَ الأجزاء، بحيث لا يحصلُ تفاوتٌ يخلُّ بالمقصودِ منها.

 

وإذا تأمّلنا مظاهرَ التسوية في الإنسان رأيناها تبدو في كل عضو من أعضائه، فقد أحسنَ اللهُ خلقَه، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التين :4] منتصبَ القامة، سويَّ الأعضاءَ حسنَها، كما قال سبحانه في موضع آخر {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} [الانفطار :7 ـ 8] وإنَّ الجمالَ والسواءَ والاعتدالَ ليبدو في تكوين الإنسان الجسدي والعقلي والروحي، وكلُّ ذلك يتناسَقُ في كيانه في جمالٍ واستواءٍ، والأجهزةُ العامّةُ لتكوين الإنسان الجسدي، كالجهاز العظمي، والجهاز العضلي، والجهاز الهضمي، والجهاز التنفّسي.. إلى غير ذلك من أجهزة الجسم المتعدّدة كلٌّ منها عجيبةٌ، لا تقاسُ إليها كلُّ العجائب الصناعية التي يقفُ الإنسانُ مدهوشاً أمامها، وينسى عجائب ذاته، وهي أضخمُ وأعمقُ وأدقُّ بما لا يقاس، وخلقُ الإنسانِ على هـذه الصورة السويّة المعتدلة أمرٌ يستحقُّ التدبَر الطويلَ، لأنَّه خلقٌ لا يملك العقل حياله إلا الإقرار بعظمة الله، والشكر له، بأنْ أكرمه بهـذه الخِلْقة، وقد كان قادراً أن يركّبه في أيِّ صورةٍ أخرى يشاؤها.

————————————————————————

   

مراجع:

1)   علي محمّد الصّلابيّ، الإيمان بالله جلّ جلاله، دار المعرفة، بيروت. لبنان، ط 1، 1432هـ – 2011م، ص (50-57).

2)   محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، القاهرة، مصر، 1408ه/1987م،(3/464).

3)   عبد الكريم نوفان عبيدات، الدلالة العقلية في القرآن ومكانتها في تقرير مسائل العقيدة الإسلامية، دار النفائس، عمّان، ط 1، 1420 هـ / 2000 م، ص 314.

4)  أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر بيروت 1405 ه/ 1984م(18/49).

5)   محمد عياش الكبيسي، المحكم في العقيدة، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 2012م، ص (65-66).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.