شعار قسم مدونات

أسباب هيمنة القرضاوي على مجال الفتوى عند حماس

blogs القرضاوي

هناك عدة عوامل وأسباب جعلت د. يوسف القرضاوي مهيمنا بلا منافس على مجال الفتوى عند حماس، وعند كثير من الإخوان المسلمين في العالم بطبيعة الحال؛ وسأحاول هنا استعراض أبرزها. وطبعا لو سألت أي حمساوي لقال إن السبب هو سعة علم الرجل وأنه علاّمة العصر بلا منازع وغير ذلك من عبارات التبجيل والمديح والإطراء التي لا تعطي إجابة علمية أو موضوعية حقيقية.

 

الانتماء للمدرسة الإخوانية

انتمى القرضاوي في شبابه إلى الإخوان المسلمين وسجن في عهد الملك فاروق، وسجن عدة مرات في عهد جمال عبد الناصر، بسبب انتمائه ونشاطه، وقال في مذكراته أنه عرض عليه تولي منصب المرشد العام وهو أعلى منصب في الهرم التنظيمي للإخوان فاعتذر. ومع أن القرضاوي ربما ترك العمل التنظيمي في صفوف الإخوان بسبب انشغالاته الكثيرة، وبسبب وضع دولة قطر التي تم حل تنظيم الإخوان فيها بقرار منهم، ولكن يظل ضمن الدائرة وصاحب السلطة الأدبية الواسعة في الإخوان. وعليه فإنه من الطبيعي أن تتجه الحركة إلى الأخذ ممن هو من داخل صفوفها، وليس ممن هو خارجها، وأن تستفتي ابن مدرستها نشأة وانتماء وفكرا، وليس من يخالف هذه المدرسة وإن كان عالما مبرزا، فهذه هي طبيعة الأشياء… وحماس هي فرع من أفرع الإخوان فتنطبق عليها هذه النظرية أو هذا القانون الإنساني.

 

اهتمامه بالقضية الفلسطينية
لم يقتصر اهتمام القرضاوي بقضية فلسطين على الخطب والفتاوى والدعاء على المنابر؛ بل تعداه إلى رعايته المباشرة لمؤسسات وأنشطة وفعاليات دعم مادي؛ مثل (ائتلاف الخير) ومؤسسة القدس الدولية

لو أغفلنا أو تغاضينا عن السبب السابق فإن وجود عالم بارز له باع في علوم الشريعة من خارج صفوف الإخوان، ولكن لا اهتمام خاص لديه بقضية فلسطين لا يجذب حماس أو أي منشغل بفلسطين. ومع أن كل علماء المسلمين لهم تقريبا ذات الموقف المناصر للشعب الفلسطيني، والمطالب بتحرير المسجد الأقصى، وفي ذلك نجد مئات الفتاوى والنشرات والمواد المكتوبة والصوتية والمرئية؛ ولكن يظل الكلام عاما وحجم الانشغال بالقضية يظل محدودا.

 

كما أن هناك قضايا تفصيلية فلسطينية لم يخوضوا فيها، ناهيك عن انفلات آراء مستفزة، كما أشرت في المقال السابق عن فتوى الألباني بهجرة أهل فلسطين. كما أن موضوع العمليات الاستشهادية، خلق نوعا من الانقسام أو التحفظ، عند مشايخ السلفية (أو بعضهم) بعكس القرضاوي.. وظل القرضاوي في كل مناسبة تقريبا يؤكد أن قضية فلسطين هي قضية الأمة، في وقت ربما ينشغل فيه فقيه من السلفيين أو غيرهم وقد أوتي علما واسعا، بقضايا أخرى.. ولكن القرضاوي ظل ينتهز أي فرصة وأي مناسبة إسلامية أو وطنية فلسطينية (مثل يوم الأرض) للتأكيد على أهمية قضية فلسطين.

 

كما أن القرضاوي لم يتحدث عن قضية فلسطين من زاوية إقليمية أو ترويجية لأي نظام عموما؛ فأنت تجد عالما ما يتحدث عن فلسطين والمسجد الأقصى وأهميته، ثم يسترسل مؤكدا دور دولته أو رئيسها وجيشها ومؤسساتها أو حتى شعبها في نصرة فلسطين، مما يحيل مسار الحديث إلى اتجاه آخر، هو ترويج سياسي واضح، بما يشبه المن وهو أمر لا يستسيغه الفلسطينيون، خاصة إذا كان الكلام يحمل نوعا من مزايدة أو مناكفة ضد نظام آخر ولو كانت مبطنة (بأن النظام سين أو الزعيم صاد قدم لفلسطين أكثر من غيره). ولكن القرضاوي ظل يتحدث عن فلسطين باسمه كعالم من علماء الأمة بعيدا عن الترويج للأطر الرسمية وحتى الحزبية.

 

مؤسسات داعمة وتوفير فرص عمل

لم يقتصر اهتمام القرضاوي بقضية فلسطين على الخطب والفتاوى والدعاء على المنابر؛ بل تعداه إلى رعايته المباشرة لمؤسسات وأنشطة وفعاليات دعم مادي؛ مثل (ائتلاف الخير) ومؤسسة القدس الدولية وتنظيم حملات تبرع ودعم؛ والعاملون والقائمون على تلك الأنشطة هم إما كوادر أو عناصر من حماس أو مقربين منها، وهي قد وفرت لهم فرص عمل طويلة الأمد، وأيضا جلبت لهم نوعا من التعاطف في ظل الأزمات الاقتصادية التي تفجرت مع اندلاع انتفاضة الأقصى.

 

وقامت الولايات المتحدة بتصنيف تلكم الأنشطة والفعاليات والمؤسسات ضمن ما يسمى (دعم الإرهاب) وهذا يجلب الغضب والتعاطف. ومع أن قيام علماء مسلمين برعاية وتشجيع دعم مادي لمسلمين متضررين ليس جديدا، ولكن كانت الأنشطة لا تعطي أولوية قصوى للفلسطينيين، بل لمسلمين منكوبين في مناطق أخرى، وكان العلماء القائمون عليها عادة بشكل مباشر أو غير مباشر يمثلون أنظمة وحكومات معينة. هذا الدعم المادي الذي استفادت منه حماس، ساهم في زيادة مكانة القرضاوي في قلوب ونفوس قادتها وعناصرها ومناصريها، وجعلتهم ينظرون بإجلال يلامس القداسة لشخص القرضاوي، وإضفاء مزيد من الأوصاف والألقاب عليه.

 

فتاوى التيسير والوسطية
ثمة علماء وفقهاء من أهل البلاد لديهم قدرة لا تقل عما لدى القرضاوي في الإفتاء وفق منهج التيسير والوسطية؛ ولكن تقبل القواعد منهم يظل محدودا لأنهم من أهل البلد

نحن نعيش في إطار حياة نمطها غربي شئنا أما أبينا؛ ونحن -غالبية الناس-  لا نريد التخلي عن ديننا وشريعتنا، وظهرت نتيجة هذه المعادلة الصعبة، مشكلات ومعضلات حياتية يومية تحتاج إلى حل يحفظ للمرء دينه، وفي نفس الوقت يمكنه التعايش مع المتغيرات التي تشمل كل شيء وكل شأن في حياته. هنا نشأت مدرستان؛ الأولى وهي غالبا ذات طابع سلفي ترفض وتحرم التعاطي مع المستجدات، وترى أن سد الذرائع وإغلاق الطرق التي قد تؤدي إلى المحرمات واجب وضروري، ولعل في بيئات معينة مثل بيئة الخليج، ما يتيح للمسلم الملتزم أن يأخذ حظه من الدنيا دون تضييع الالتزام بأحكام الدين وفق المنهج السلفي، فثمة أبواب عمل ورزق ودراسة وحاضنات اجتماعية تعطيه هامشا واسعا.

 

ولكن البيئات الأخرى ومنها الفلسطينية صعبة ومتداخلة للغاية؛ فالشعب الفلسطيني يميل إلى التدين الوسطي (لا إفراط ولا تفريط) ولكن كما شرحت سابقا أدخلت فيه الآراء السلفية التي تجعل حياة الفرد في غاية الصعوبة والتعقيد، اللهم إلا إذا امتلك مالا كثيرا يجعله يخلق لنفسه بيئة مناسبة لحياته الدنيوية والدينية. فابن الخليج خاصة في ظل الطفرات النفطية، قد يجد عملا مناسبا في أي مجال، ولكن فرص العمل عندنا ضيقة ومحدودة، وأبواب الرزق قليلة، وبالتالي فإن فتاوى السلفيين لا تناسبنا، كما أن علاقاتنا الاجتماعية بين مكونات شعبنا الدينية والاجتماعية المختلفة، تختلف عن الآخرين؛ فمثلا كيف نأخذ بفتوى عدم تهنئة المسيحيين في أعيادهم عند من يجاورهم ويساكنهم ويعمل ويدرس معهم، ويشاطرهم هموم الوطن والقضية؟! وكيف يمكن مقاطعة قريب لك له فضل عليك لمجرد أنه مدخن أو لا يصلي بانتظام؟ وكيف تتجاوز عُرفا اجتماعيا عندنا يقوم فيه أهل امرأة بزيارتها يوم العيد ومنهم أبناء عمها فيمتنعون عن مصافحتها، بينما بيئات أخرى لا يعرف الرجل وجه زوجة شقيقه أو ابنة عمه؟ وغير ذلك من تفصيلات لا يدركها من لم يعش في فلسطين. وهنا نشأت مدرسة أخرى قام عليها القرضاوي ترى بالتيسير على الناس عبر إصدار فتاوى لاقت رواجا واستحسانا، وتلقفتها حماس ورأت أنها تمثل مخرجا مناسبا للمعضلات الحياتية، وفكاكا من قيود السلفية التي فرضتها على نفسها وفق ملابسات سبق وأن شرحتها.

 

زمار الحي لا يطرب!

ولكن الأمر ليس أحاديا بهذه الصورة فقط؛ فثمة علماء وفقهاء من أهل البلاد لديهم قدرة لا تقل عما لدى القرضاوي في الإفتاء وفق منهج التيسير والوسطية؛ ولكن تقبل القواعد منهم يظل محدودا لأنهم من أهل البلد؛ فزمار الحي لا يطرب. ولذا صار القرضاوي كونه ليس فلسطينيا مرجعية عند الكادر والقاعدة الحمساوية، بدعوى أنه عالم لا يشق له غبار، ولا نظير له في العلم الشرعي في العالم بأسره، وأنه يضاهي الأئمة الأربعة في زماننا، ووقع حتى علماء وفقهاء فلسطينيون في هذا (الهيام) بالقرضاوي، وصار يمكن لهم اليوم الأخذ بجواز ما كان ينظر له على أنه حرام أو مكروه بالأمس، فقط لأن القرضاوي قال بذلك… فهيمنة القرضاوي مطلقة، وأزعم أنه لا يجرؤ أي فقيه حمساوي على مخالفته، مهما امتلك من حجج وأدلة مخافة إثارة القواعد والكوادر عليه.

 

مشكلة أحادية المرجعية

ولكن ومع تغيرات دولية ومخرجات الربيع العربي، وتطورات خاصة تتعلق بحماس وتعاطيها مع دول إقليمية (خاصة إيران) وحسابات القرضاوي المتعلقة بدولة قطر، وظهور علامات تقدمه في السن، خلقت عند حماس التي جففت (بلا مبالغة) أي أرضية لمرجعية فقهية عدا القرضاوي، أزمة ومشكلة بدأت تظهر ملامحها لأي مراقب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.