شعار قسم مدونات

لماذا لا تنجح الثورة في لبنان؟

blogs لبنان

عادةً ما يشهد لبنان تظاهرات وحراكات مطلبية وشعبية عند أي إستحقاق سياسي أو معيشي للمطالبة بحقوق معينة يعتبرها شعبه مقدسة. هذه الحراكات ليست غالباً عالية السقف على أرض الواقع، فهي مرتبطة بمطالب معيّنة ومحدودة الأفق كإلغاء الضرائب أو زيادة الأجور ولم تصل إلى مستوى الثورة الحقيقية. وإن كان يوجد في لبنان العديد من الجهات السياسية التي نظّمت حراكات لإسقاط النظام إلا أنها على أرض الواقع لم تكن سوى تظاهرات لساعات محدودة، يعود المتظاهرون بعدها إلى منازلهم. ومن هنا بدأ شعار إسقاط النظام في لبنان يعتبر شعار سخيف وتافه ونكتة على ألسن اللبنانيين. فرغم أن أغلبية الشعب اللبناني ينادي بضرورة إسقاط النظام إلا أنهم في اللحظات الجدية تراهم يتراجعون وينكفئون ويستسلمون للواقع. لذلك الثورة لدى اللبناني هي مفهوم خيالي غير واقعي وفي كثير من الأحيان تأخذ بُعداً إستهزائياً في وعيه.

الثورة تاريخياً في لبنان

مع هذا شهد لبنان ثورات ومحاولات ثورات في العديد من حقبه التاريخية، قبل إكتمال نهائية حدود الكيان الحالي وبعده. أولى الثورات خاضها الفلاح طانيوس شاهين في بلاد كسروان ضد الإقطاعيين الموارنة من آل الخازن بين عامي ١٨٥٨ و١٨٦٠ واستطاع طردهم إلى بيروت ومصادرة ممتلكاتهم وأعلن تأسيس الجمهورية. لاحقاً بدأ شاهين بتجهيز جيشه لمقاتلة الإقطاعيين الدروز فكانت من الشرارات التي أطلقت الحرب الأهلية اللبنانية الأولى في الجبل بين الدروز والموارنة، وضاعت معها الثورة بعد أن استقال شاهين من مهامه التاريخية. محاولة ثورة أخرى شهدها لبنان عام ١٩٥٨ إثر إنقسام اللبنانيين بين معسكر مؤيّد للمحور الأميركي تزعمه الرئيس اللبناني حينها كميل شمعون ومعسكر مؤيّد للمحور الناصري تزعمه الزعيم كمال جنبلاط. هذه المحاولة الفاشلة عُرفت لاحقاً بأزمة ١٩٥٨ وانتهت بانتصار شمعون لكنها كانت ممهدة للحرب الأهلية الكبرى عام ١٩٧٥. لذلك، تاريخياً كانت الثورات تبوء بالفشل في لبنان لأسباب عديدة متعلّقة بطبيعة المجتمع اللبناني والعلاقة مع الخارج. فثورة طانيوس شاهين مثلاً إصطدمت بجدار الطائفية ففشلت وأزمة ١٩٥٨ أُحبطت بتدخل أميركي وهي في الأساس كانت محاولة ثورة إستجابة لتغيرات بدأت تحصل في العراق وسوريا ومصر بعد الانقلابات التي حصلت فيها.

الطائفية في لبنان
تغيير بطيء لكن نتائجه لم تكتمل، هي حرب أهلية لأهداف مختلفة أدّت إلى تكريس الطائفية أكثر في النفوس والنصوص. لذلك، أي ثورة في لبنان لن يُكتب لها النجاح

وفي قراءة تاريخية متأنية للواقع اللبناني، نرى أن الطائفية المتجذرة في النفوس والنصوص في لبنان تُشكِّل أهم عائق لنجاح أي ثورة. فاليوم مثلاً لو قرّر أحد ما إعلان الثورة في لبنان يُنظر مباشرة إلى مذهبه ودينه قبل أفكاره وتوصف ثورته على هذا الأساس وبالتالي تُولد ميتة. هذه الطائفية أبدع ساسة لبنان في إستغلالها لإحباط أي حراك ثوري ما ساهم عبر الوقت في خلق طبقة سياسية معارضة للطبقة الحاكمة لكنها غير مزعجة. فالمعارضة في لبنان هي الأخرى طائفية، وتظن بطائفيتها أنها ستغلب الحاكم لكنها تخدمه من حيث لا تدري. لذلك، أدّت الطائفية مهامها على أكمل وجه ورسمت خطوط اللعبة بين الطوائف وابتكرت مجالس لتنظيم الخلافات بينهم وتركت هامش ضيّق للمعارضة لتنزل إلى الشارع كنزهة في عطلة نهاية الأسبوع. فأي ثورة بحاجة إلى نخبة معارضة تقودها وقائد يحرّكها وفكرة تُلهمها. والنخبة المعارضة في لبنان هي أسوأ من الحاكمة والقائد مفقود والفكرة مبتذلة ومستوردة ولا تُحاكي ثورة حقيقية لبنانية.

التدخل الخارجي

هذه الطائفية جلبت تدخلات خارجية لحمايتها. كل طائفة في لبنان لديها حماية خارجية وأي ثورة في لبنان تأخذ مباشرة بعداً خارجياً والعكس صحيح. هذا التدخل الخارجي حصل في ثورة طانيوس شاهين عندما تدخلت الدول الأوروبية ورفضت حراكه واضطرت السلطنة العثمانية لتقديم توضيح عن "تنظيمات الكلخانة" التي كانت إحدى ذرائع شاهين القانونية لإعلان الثورة. وفي أزمة ١٩٥٨ كان التدخل الخارجي واضحاً إذ أن الثورة على شمعون هو بحد ذاته كان إستجابة إسلامية داخلية للناصرية في العالم العربي، ما جلب تدخلاً أميركياً لحماية عهد شمعون.

التغيير بطيء

هذا اليأس جعل كثر يرفضون خيار الثورة ويتبنون الخيار الديمقراطي أي الانتخابات وهو خيار متوفر في لبنان ومن الأسباب المهمة لغياب ثقافة الثورة. فالنظام الديمقراطي في لبنان ورغم مشاكله، لا يزال يسمح لكثر من الفئات السياسية أن تُعبّر عن نفسها، ولم تعد هذه الجهات ترى في الثورة حلاًّ. وبنظر البعض، فإن درس الحرب الأهلية ١٩٧٥ كان قاسياً، وهو درس تداخلت فيه عوامل عديدة أدّت إلى انقلاب الموازين لكنها لم تُطح بالنظام الطائفي. هو تغيير بطيء لكن نتائجه لم تكتمل، هي حرب أهلية لأهداف مختلفة أدّت إلى تكريس الطائفية أكثر في النفوس والنصوص. لذلك، أي ثورة في لبنان لن يُكتب لها النجاح، فهي تواجه وحشاً اسمه الطائفية له حماية خارجية ولن تنتهي إلا بحربٍ أهلية دامية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.