شعار قسم مدونات

مناظرات الانتخابات الرئاسية.. هل تحقق لتونس أهدافها؟

blogs انتخابات تونس

إن التناظر فن يتطلب مهارات ممن يدير التناظر ومن المتناظرين وممن يحكمون المناظرات ويقيمونها طبقا لقواعد وضوابط منطقية وعقلية تميز الحجاج الحقيقي من الحجاج الباطل والمغالط. فليس من اليسير أن نميز بين المناظرة التي غايتها الحقيقة والمغالطة التي غايتها الوهم. وقد بينت الدكتورة سلوى العباسي متفقدة اللغة العربية في المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية في أحد مقالاتها قائلة: لابدّ في رأيي قبل كلّ شيء من توضّح المقصود بـ"المناظرة" وقد ترجمها العرب في البداية بلفظ "طوبيقا" هي فنّ جداليّ من الأقوال يستدعي نقاشا بين طرفين متناظرين سواء أكانا شخصين أو فريقين، لا أكثر ولا أقلّ، إذ لابدّ من مغالبة ومناجزة ثنائية، أي أن يغلب أحدهما الآخر بقوّة الحجّة وبالقدرة على إفحام الخصم وإظهار ضعف موقفه أمام متلق ثالث هو الجمهور الحكم الحامل في داخله لسلطة التحكيم والاقتناع بما استطاعه المناظر الغالب من قوة الاستدلال بالحجة والإقناع بالغلبة. إذن فهي من ضروب التبكيت والإفحام في الحجاج لا تسمح بتوافق ولا تقارب بين الآراء ولا تلفيق ولا ترويق ولا مصادقة ولا تصديق.

وهذا يعني أوّلا أنّ التناظر بالقول لا يكون بين خمسة أو ثمانية مترشحين لكل واحد منهم رأي أو أطروحة أو وجهة نظر يطالب بأن يناظر فيها أو بها. تتطلّب المناظرة في أصلها الحجاجي البلاغي تبادلا ثنائيا للكلام لا خماسيا ولا سداسيا، وتستدعي منازعة قضية واحدة تنقسم إلى أطروحتين وليس إلى مجموعة أطاريح أو مواقف متنافرة أو إلى عدد من المشاريع الانتخابية التي قد لا يصل بينها أيّ رابط منطقي، سواء أ بالاتفاق كليا أو الاختلاف جزئيا. يقول الجرجاني والمناويّ في تعريفاتهما: "المناظرة هي النّظر بالبصيرة من الجانبين في النّسبة بين الشّيئين إظهارا لصّواب" كما قيل "هي تردّد كلام بين شخصين يقصد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كلّ منهما في ظهور الحقّ" ومن آدابها النّظر والانتظار أي ألاّ يتكلّم المناظر حتّى يتمّ مناظره كلامه إلى آخره ويفرغ من حججه ليردّ عليها جدالا..

الخشية الثانية أن تتحول المناظرة إلى استعراض من المترشحين لبرامج وأفكار وأراء ورؤى لا علاقة لها أصلا بصلاحيات رئيس الجمهورية وهو ما لوحظ في برامج المترشحين التي يغلب عليها عدم الإلمام بتلك الصلاحيات

ومن شروطها البلاغية المنطقية وحدة القضية وإجراء الكلام مجرى موحدا، فلا يردّ مثلا على خطاب الفقهاء بخطاب العلماء في الرياضيات أو الهندسة أو بحجج النحاة والفلاسفة وهي تتطلّب تمكّنا وإلماما مهما كان أحد المتناظرين ناقلا أو سائلا ومعترضا أو مانعا ومستدلا. هنا ينتهي مقال الدكتورة سلوى العباسي والذي يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية: طبقا لهذه الشروط هل يمكن أن نعتبر المناظرات التي ستدور بين المترشحين للانتخابات الرئاسية التونسية مناظرات حقا؟ ألا يمكن أن تزيد هذه المناظرات في تيهان المواطن التونسي وفي حيرته مع هذا الكم الهائل من المترشحين؟ وهل تمتلك المؤسسات الإعلامية التونسية كفاءات صحفية قادرة حقا على إدارة مثل هذا الحوار التناظري بين المترشحين؟

إن واقع الحال في المؤسسات الإعلامية التونسية يكشف عن التباس رهيب في فهم مهنة الصحفي والتي غايتها الحقيقة لتتحول في تونس إلى مجال تصادم مع الرأي العام هووّيا وأخلاقيّا وتحول الصحفي والذي هو في الغالب غير مختص في مجال الصحافة إلى منظر في هذا الاتجاه أو ذاك وتحولت البرامج إلى سجالات إيديولوجية تنتهي غالبا بتنديد واسع من عموم الناس على الفضاءات الاجتماعية. وبمثل هؤلاء الصحفيين الدخلاء لا يمكن تحقيق الغاية من المناظرات الرئاسية والتي تمكين جمهور المواطنين من الاطلاع على البرامج والرؤى والأفكار والاقتراحات التي يقدمها المترشحين للقضايا التي تهم أمة المواطنين.

يبدو إذن وانطلاقا من واقع الحال أن المناظرات لن تزيد عموم الناس إلا مزيد من التيهان والحيرة والريبة والتشكك في السياسة والسياسيين وإلى مزيد انعدام الثقة بهم مما قد يدفعهم إلى العزوف عن الانتخاب مثلما حدث في الانتخابات البلدية سنة 2018. إن المتوقع أن تشهد الجولة الأولى من التناظر يوم 07 سبتمبر 2019 التاسعة ليلا مواجهة شرسة بين مرشح النهضة الأستاذ عبد الفتاح مورو وبقية المترشحين من جهة ومن يدير المناظرة من جهة أخرى وهو أمر تعود عليه التونسيين في كافة البرامج والحصص التلفزية التي يكون طرفا فيها أحد وجوه حركة النهضة ولعل فضيحة الفيديو المركب في اللقاء الأخير للشيخ مورو في إحدى القنوات التونسية دليل على نوعية العمل الصحفي الذي سيمارس في ليلة المناظرات وهو ما يخشاه الكثير من العقلاء أن تتحول المناظرة إلى محاكمة لطرف دون الأخرين وأن يحمل كل مصائب الوطن التنموية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية وإلى غير ذلك.

والخشية الثانية أن تتحول المناظرة إلى استعراض من المترشحين لبرامج وأفكار وأراء ورؤى لا علاقة لها أصلا بصلاحيات رئيس الجمهورية وهو ما لوحظ في برامج المترشحين التي يغلب عليها عدم الإلمام بتلك الصلاحيات وعدم التمييز بين سلطة رئيس الجمهورية وسلطة رئيس الحكومة وسلطة رئيس البرلمان إذ يتناسى أغلبهم أن صاحب السلطة الأصلية في دستور الجمهورية الثانية هو البرلمان. فالوعود التي يقدمونها لا يمكن أن تتحقق إلا بسور برلماني حامي للرئيس وهو الأمر الذي قد لا يتوفر للرئيس القادم خاصة إن كان من المستقلين ذلك أن الحظوظ متساوية في هذه الانتخابات متساوية لأن أكثر من 60 بالمائة من الناخبين لم يقرروا بعد لمن سيعطون أصواتهم وستكون هذه المناظرات إذا ما أديرت بشكل احترافي وعلمي دقيق وموضوعي قادرة على تحديد خيارات الناخبين طبقا لبرامج واضحة ودقيقة تراعي صلاحيات الرئيس ودوره الحقيقي كحام للدستور وللأمن الوطني التونسي وموجها لسياستها الخارجية فهو الصانع لصورة تونس في الخارج.

سننتظر يوم المناظرات لنحكم لهم أو عليهم ونفضل أن نحكم لهم لأن في ذلك خدمة لتونس ولأجيالها القادمة. فمهمة الجيل الحالي المحافظة على الدولة الديمقراطية التي تكرس الحرية والكرامة الإنسانية وكذلك إعادة بناء الوطن اجتماعيا واقتصاديا وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية العادلة. إن بناء تونس الغد يبدأ اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.