شعار قسم مدونات

حرب عالمية ثالثة.. خيال شعوب مقهورة أم حقيقة مرة؟

blogs الأسطول الأمريكي

فجر الجمعة الماضية استفاق العالم أجمع على خبرٍ كان آخر ما توقعته دول العالم وشعوبه: اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال "الحاج" قاسم سليماني، اليدُ الطولى لإيران خارج حدودها، بقرار من رئيس أمريكي مليء بالمفاجآت كما العادة؛ ليستنفر العالم أجمع آخذاً احتياطاته كلها خشية رد إيراني قد يطول أي حليف أمريكي أو مواقع أمريكية في الشرق الأوسط. على أثر هذه عجت مواقع التواصل الاجتماعي بتساؤلات عن حرب عالمية ثالثة محتملة بصورة جدية في حين وبصورة هزلية في حينٍ آخر، وهذا ينتج عن التصور البسيط بأن إيران ستضرب مواقع أمريكية بدورها سترد أمريكا هنا نعود لأن إيران من خلفها روسيا وغريمها صار الولايات المتحدة، وحربٌ بين روسيا وأمريكا هي حربٌ عالمية لا محالة.

من هذا التصور البسيط لتسارع عملية التأزم وصولاً للانفجار راح الناس لتداول وسم الحرب العالمية الثالثة في ما بينهم، إلا أن السؤال خلف هذا الانتشار لهكذا توقع متطرف يجب أن يكون حول مسرّعات الوصول له وانتشاره بين قواعد المجتمعات لا عنه بذاته فهو خيار محتمل في كل الأوقات إلا أن العالق هو "متى؟"، فلماذا كان الجواب على "متى؟" من قبل القواعد في المجتمعات هو "الآن"! ما هي المعاملات التي قادت لهذا؟ إن المعاملات هنا كثيرة ولا أدّعي أنني قادرٌ على رصدها كافة، إلا أن ما يطفو على السطح منها بالنسبة لي ثلاث.

الأول هو الواقع المرير التي عاشته كافة الشعوب العربية في ظل واقع استبدادي وتفشٍ مهولٍ للفساد وتردٍ للمستوى المعيشي بكافة أصعدته عند بعض الشعوب مثل مصر ولبنان والسودان وغيرها، وتدمرٌ كامل للحياة الإنسانية عند شعوب أخرى كاليمن وسوريا وليست العراق وليبيا أفضل بكثير منهما، هذه الواقع المرير سهل على الشعوب العربية استحضار احتمالات أكثر سوءاً من خيالها وقربها لهذه الخيارات المريرة، فالحرب مثلا ليست خياراً خيالياً بالنسبة للسوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين، بل هي واقعٌ يومي مريرٌ معتاد، وهذا لا يجعل خيار الحرب الكبرى شيءً مستحيلاً بالنسبة لهم.

الحرب العالمية الثانية التي تقدر قوة الجيوش حينها بما لا يزيد عن 10 بالمئة من القوة العسكرية الأمريكية فقط اليوم أنفذت ما يزيد عن 45 مليون إنسان، ناهيك عن حجم التأخر البشري الناتج عنها والدمار المادي

الثاني وهو أن الإنسان عادة ما يطبطب على خوفه ويسكنه باستحضار أسوء الاحتمالات أمامه ويجعلها خياراً محتملا ممهداً نفسه لصدمةٍ محتملة واستحضار هذا الاحتمال عادةً ما يجيء بصورتين بناء على نوع المُستحضِر للخيارات، فعادة إن كان قد جرب الشيء سابقاً فسيتناوله تناولاً جدياً وسيكون منزعجاً منه بطريقةٍ أو بأخرى لأنه يعلم ويلاته، أما إن لم يكن قد نال شيء من هذا الخيار فسيتناوله عادةً تناولاً هزلياُ مهوناً على نفسه من خوفه منه.

الثالث هو أن هذا لشعوب التي صار الواقع بالنسبة لها قاعٌ ما بعده قاع وخصوصاً تلك التي أنهكتها الحروب، صارت ترى في أي انقلاب كبير يغير معالم هذا الكوكب وطبيعة القوى فيه احتمالاً لتحسن أحوالها وبابٌ للخروج مما صارت تراه حلقةً مغلقةً من المآسي، وأنها عالقةٌ تماماً في معادلاتٍ تأبى التزحزح إطلاقاً إلا من فوقها!

من بعد هذا لا بد من أن نمر على واقعية هذا الخيار، إن حرباً عالمية تعني تطاحن ما يزيد عن 30 مليون مجند في أقل تقدير وأكثر من 1200 مليار دولار ومئات الآلاف من القطع الحربية، وما يزيد عن 15 ألف رأس نووي 14 ألف منها لدى الولايات المتحدة وروسيا، وهي حسب تقديرات خبراء قادرة على تدمير العالم بين 14 إلى 30 مرة بتفاوت قوة القنبلة الواحدة، ناهيك عن القنبلة الهيدروجينية التي تعادل قوتها 10 آلاف ضعف من قوة القنبلة النووية والتي أعلنت كل من الولايات المتحدة وكوريا الشمالية امتلاكها، واثنتين منها كفيلتان بتغطية كل القوة النووية العالمية وتجاوزها!

هذا الموجز القصير عن حجم الترسانة العسكرية -في تقديرات متوسطة للمشاركة في الأزمة- يرسم لنا حدود ومعنى اندلاع حرب عالمية ثالثة، وما هي نتائجها وأثمانها، فالحرب العالمية الثانية التي تقدر قوة الجيوش حينها بما لا يزيد عن 10 بالمئة من القوة العسكرية الأمريكية فقط اليوم أنفذت ما يزيد عن 45 مليون إنسان، ناهيك عن حجم التأخر البشري الناتج عنها والدمار المادي، إن استحضار هذا في الذاكرة العالمية مرة أخرى كفيل بدفع أطرافه لإعادة حساباتهم مئات المرات قبل التوجه لخيار هستيري كهذا، ومن المؤكد حتماً أن اغتيال قاسم سليماني ليس كفيلاً بأن يكون شرارة لإشعال فتيل تراكمات وتنافسات عالمية سابقة وحالية وصولاً لهذه الحرب، إذاً فالحرب العالمية الثالثة خيارٌ في غاية البعد عن صفحة الاحتمالات الأكثر فرصة للحصول اليوم تبعاً لعدم تناسب النتيجة مع السبب.

الضروري للغاية اليوم هو أن ندرك ما هي الاحتمالات الأخرى؟ ما الذي ينتظرنا؟ صحيحٌ أن رقعة الصراع تأخذ بالتوسع يوماً وراء الآخر إلا أنني أجزم أن هذا سيقود العالم لإعادة بناء تفاهمات جديدة فهو غير قادر على تحمل أعباء الخيار الآخر، عدا عن أن التطور الدبلوماسي اليوم وقدرة أطراف العالم على التواصل باتت أكبر بكثير منها في الماضي، مما يمكن الأطراف العالمية من الوصول لحلول توافقية مختلفة، أو عن طريق الضغوطات غير المباشرة وتقديم التنازلات وكل ما يعرف بجمعه بـ "التفاوض"، وللحالات الصعبة جداً تطور مفهوم الحرب بالوكالة لدرجة كبيرة مما يبعد الأطراف الكبرى عن التصادم المباشر الذي قد يوصل لحربٍ من هذا الحجم، العالم اليوم متجه بوضوح لشكل جديد من تمثيل القوة، فلم يعد الشكل القديم ذو القطبية الواحدة أو المزدوجة في أحسن الأحوال قادراً على المضي قدماً في إدارة ملفات العالم إطلاقاً.

يتوجه العالم لنظام واسع الأطراف متعدد القطبية وهو الذي لن يقوم إلا على مجموعة واسعة جداً من التفاهمات تضمن استقرار مصالح كافة الأطراف التي تشعر أن العالم اليوم مشتعل وعلى كف عفريت، حجم هذه التفاهمات عليه أن يكون كبيراً للغاية ليتمكن من تجاوز هذه العوالق التي تهدد استقرار مصالح الجميع، ولضمان استمرارية هذه التفاهمات عليها أن تكسب قيمتها وقوتها ولربما يمكننا القول "شرعيتها" من حجم وعدد المشاركين فيها، فطرفٌ خارجها يعني اضطراباً لهذه التفاهمات وتهديداً لمصالح أطرافها، والحتمي في أي معادلة دولية باحثة عن الاستقرار هو وجودنا كعرب فيها، العرب الجغرافيا والموارد والديموغرافبا؛ ولدخولنا فيها بهذا الحجم على الأطراف الدولية الكبرى أن تصنع حالة مرضية للعرب تدفعهم ليكونوا جزء من التفاهم الكبير، هنا يمكننا الذهاب لقراءة مشهد مقتل سليماني كجزء من كل بسيط وهو "إخراج إيران من مناطق العرب وتقليص نفوذها فيها"، ثم النظر إلى الأخير على أنه جزءٌ من كلٍ مركب وهو "إعادة توزين القوى في العالم" تمهيداً للكل العموم وهو "صياغة نظام دولي جديد".

وعلينا أن نكون مستعدين لدخول هذه التفاهمات بجاهزيّة عالية فمن يصل لذلك الوقت جاهزاً مستعداً لما على الطاولة من تزاحم سيحقق أكبر قدر من الفوائد، وعلينا إدراك أين هو موقعنا في التشكّل الجديد للعالم قبل أن نصدم به؛ إن إدراكنا لهذا مبكراً يعني قدرتنا على الاستفادة منه في مشاريع الشعوب المنهكة من بقائها حداً ثقيلاً بحجمه مهمشاً في قراره ومصالحه في معادلات تشكيل القوة والسلطة وتمثيلها، إدراكنا لهذا باكراً وتحركنا باتجاه ما يمليه هذا الإدراك يعني ضماننا لموقع متصدر في الشكل الجديد للعالم، إن بوابة الخروج من الأزمات لنهضة والحضارة هي الاستغلال الجيد للانقلابات التاريخية الكبرى والتشكّلات الجذرية للقوة فيه، وهو ما أظن أنه حاصلٌ لا محالة خلال عقد من الآن وهو ما علينا أن نكون جاهزين له تماماً لكي لا نلتزم بحقبة أخرى من الذل والتهميش لحين انقلاب تاريخي آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.