شعار قسم مدونات

ما هي ارتدادات تصفية قاسم سليماني على الساحة الإيرانية؟

BLOGS قاسم سليماني

بينما كان العام الجديد يقدم أوراق اعتماده إلى الوجود، إذ بالعالم يستفيق بعد سباته على وقع ضربة من العيار الثقيل، عنوانها تصفية قاسم سليماني وقادة بارزين في الحشد الشعبي بصواريخ أرسلتها طائرة مسيرة في قلب العاصمة بغداد، معلنة نهاية حياة مهندس التمدد الطائفي في البلدان المجاورة، وفرض قواعد جديدة لحالة الاشتباك القائمة بين إيران والولايات المتحدة، وحدوث تغير دراماتيكي في حسابات الإدارة الأمريكية المقبلة على انتخابات مفصلية؛ وبذلك دخلت المنطقة بأسرها في حالة من الاستقطاب والتأهب لمواجهة عسكرية محتملة.

بعد سيل من الوعيد والتهديد، رد الحرس الثوري الإيراني باستهداف قاعدة عين الأسد في العراق وقواعد أخرى في أربيل بصواريخ من طراز قيام وذو الفقار، أصابت بعضها الهدف وضلت أخرى الطريق وفق ما أفادت به وكالات الأنباء، وعلى الفور صرح محمد جواد ظريف "وزير الخارجية" بأن الرد الإيراني قد انتهى، وأبدى المرشد إعجابه بالقدرات الصاروخية للحرس الثوري والأمة الإيرانية، مؤكداً أن الشيطان الأكبر قد تلقى صفعة قاسمة. في حين لم تتأخر تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كثيراً لتصب الماء البارد على سيل التصريحات الإيرانية المبتهجة بالرد واكتفى بالقول إن كل شيء على ما يرام.

لعل الارتداد الأهم في مرحلة ما بعد سليماني من وجهة نظري هو محاولة النظام الإيراني تخفيف حدة الاشتباك مع المملكة العربية السعودية، والبحث عن قنوات حوار مع القيادة السياسية هناك؛ لعلمه بأن السعودية هي التي تحرض الإدارة الأمريكية

كان أحد الصواريخ من نصيب طائرة أوكرانية أقلعت للتو من مطار طهران، وعلى متنها 176 راكباً معظمهم من جنسيات كندية وأوكرانية؛ لتتفاقم جروح القيادة الإيرانية التي لم تعد في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحسب، بعدما دخلت في أزمة سياسية مع الحكومة الأوكرانية والكندية؛ بسبب محاولة إيران التهرب من مسؤوليتها عن إسقاط الطائرة. بعد هذا العرض الموجز لمسار الأحداث التي تلت عملية تصفية قاسم سليماني في بغداد، والردود المتبادلة بين طهران وواشنطن، سنحاول في هذا المقال تقصي الارتدادات الحالية والمحتملة لهذه العملية، وطبيعة العلاقة التي ستحكم سلوك الدولتين في المستقبل والتي سنقوم بعرضها في نقاط موجزة.

أولاً: قدمت عملية التصفية طوق نجاة للحكومة الإيرانية التي تئن من وطأة الاحتجاجات والاضطرابات الداخلية الرافضة لسلطة المرشد، والمطالبة بتحسين الأحوال المعيشية؛ فاستهداف أحد أهم رموز الدولة من قبل الشيطان الأكبر يعني أن الأمة الإيرانية في دائرة الخطر الشديد، ولا بد من الالتفاف خلف القيادة، وبشيء من التحشيد وتهييج العواطف والبروباغندا نجح النظام الإيراني في إطفاء نار الاحتجاجات، ونقل المتظاهرين على القمع والفقر إلى مشيعين لأبرز رؤوس النظام الذي بدا في مشهد بطولي يوجب على أبناء الوطن نبذ الخلاف والالتحام أمام هذا الحدث الجلل.

ثانياً: ومن الارتدادات المحتملة لمرحلة ما بعد سليماني ونجاح النظام في توسيع حاضنته الشعبية، حدوث هزة عنيفة في ملف حقوق الإنسان واستشراء القمع والملاحقة للمعارضة، مدعوماً بضخ إعلامي يُخَوّن المحتجين ويشيطن الرافضين لتردي الأوضاع المعيشية. ومن المتوقع كذلك أن يقدم النظام على تصفية جميع خصومه في الداخل أو من يشك في نواياهم المناوئة لولاية الفقيه.

ثالثاً: تغير دراماتيكي في طبيعة الصراع وانتقاله من حروب الوكالة التي كانت إيران من خلالها تغذي بعض أذرعها العسكرية العابرة للحدود لضرب أهداف محددة إلى الاحتكاك المباشر؛ فلأول مرة نجد أن الذي يُستهدف هو أحد القيادات الإيرانية وأبرزها على الإطلاق، والرد الإيراني يأتي من داخل حدودها، وليس من خلال أذرعها العسكرية المنتشرة في المنطقة.

رابعاً: ستلجأ إيران في المرحلة المقبلة إلى إشهار ورقة القوة الوحيدة لديها وهي فك التزامها من اتفاق النووي الذي وقعته مع الدول الغربية عام 2015، لكن ستأخذ عملية خفض الالتزام من جانب إيران المنحى التدريجي الحذر لقياس ردة فعل الدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص؛ لاسيما بعد الضربة المؤلمة وغير المتوقعة التي تعرضت لها، وتلويح ترامب بتوجيه المزيد من الضربات للنظام الإيراني إذا ما تجاوزت إيران الخط الأحمر المرسوم لها. وبالتبعية ستلجأ إيران إلى رفع القيود عن برنامجها الصاروخي، والشروع في تطوير المزيد من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى التي تعتبرها الولايات المتحدة عامل تهديد لحلفائها في المنطقة.

خامساَ: لم يمضِ نصف ساعة على إطلاق الحرس الثوري رشقات صواريخه التي استهدفت القواعد الأمريكية في العراق حتى ارتكب خطأ جسيماً بإسقاطه طائرة ركاب أوكرانية عن طريق الخطأ واجهته الإدارة السياسية بارتباك شديد، وحاولت التنصل من المسؤولية؛ ما وضعها في مرمى النيران الدولية؛ لاسيما الدول المتضررة من حادث استهداف الطائرة التي لم تقبل اعترافاً إيرانياً متأخراً، أو اعتذاراً مشفوعاً بعبارات الحزن والأسى، بل لا بد أن تدفع إيران ثمن هذا الخطأ بتعويض أسر الضحايا؛ الأمر الذي يضيف لحصارها حصاراً آخر ولأعبائها الاقتصادية أزمةً أخرى، ناهيك عن مصداقية النظام الإيراني التي تلطخت في الوحل؛ بسبب كذب القيادة الإيرانية في البداية ومحاولتها تقديم مبررات عبثية لتفسير الحادث.

سادساً: لعل الارتداد الأهم في مرحلة ما بعد سليماني من وجهة نظري هو محاولة النظام الإيراني تخفيف حدة الاشتباك مع المملكة العربية السعودية، والبحث عن قنوات حوار مع القيادة السياسية هناك؛ لعلمه بأن السعودية هي التي تحرض الإدارة الأمريكية على ضرورة القيام بعمل عسكري يوقف سلوك إيران التوسعي ويقضي على خلاياها في اليمن التي تستهدف المملكة بالصواريخ الباليستية. ما تخشاه إيران في المرحلة الراهنة هو أن يقدم ترامب الذي يتطلع إلى الفوز بولاية ثانية على تنفيذ عمل عسكري أكثر جرأة من عملية التصفية نفسها؛ الأمر الذي يضع النظام الإيراني في ورطة قد لا يحسن الخروج منها؛ لذا فلا بد من الحوار مع أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وأكثر المتذمرين من سياسة ترامب السابقة التي تحاول أن تتحاشى أي رد عسكري على الخروقات الإيرانية المتوالية.

سابعاً: أما على المستوى الدولي فستلجأ إيران إلى التقارب مع القوى الصاعدة؛ لاسيما روسيا والصين التي تمتلك مقعداً دائماً في مجلس الأمن، وتشرف على مشروعات اقتصادية عملاقة؛ لتخفيف وطأة العقوبات الأمريكية، وإيجاد نسق سياسي بديل يمكن أن يمنح إيران نفساً أطول في معركة عض الأصابع، في ظل تصريحات ترامب الأخيرة التي عبر فيها عن عدم اكتراثه بالحوار مع إيران، في إشارة ضمنية إلى سياسة الخنق الاقتصادي التي ستجبر النظام الإيراني من وجهة نظره عاجلاً أم آجلاً على الرضوخ للمطالب الأمريكية. ناهيك عن المواقف الغربية الصادرة من بريطانيا وفرنسا وألمانيا على وجه التحديد والتي تتماهى على اختلاف صيغها مع الموقف الأمريكي، وتحاول حشر إيران في الزاوية، رغم أن إدارة ترامب هي التي أقدمت على الانسحاب من اتفاق النووي، وباشرت في فرض عقوبات أحادية على النظام الإيراني.

وأخيراً، لا شك أن عملية تصفية سليماني قد عززت سطوة الحكم العسكري في الداخل الإيراني، وصبت الماء البارد على نار الاحتجاجات الشعبية المستعرة في المدن الإيرانية الرافضة لسياسة الحروب العبثية خارج الحدود والتي ألقت المواطن الإيراني في جحيم الفقر والبطالة، وأعادت تأكيد مظهرية الدولة الكبيرة الرافضة لرأس الاستكبار العالمي والتي تحاول ترسيخها في أذهان المتعاطفين معها، إلا أن إيران من ناحية أخرى قد دخلت في أزمة سياسية لم يسبق أن واجهتها الثورة الإيرانية في مراحلها الأولى، وبات هامش المناورة محدوداً جداً، في ظل فرض إدارة ترامب المزيد من العقوبات، ورفض العراق أن تكون أراضيه منطلقاً لتصفية الحسابات بين إيران وواشنطن، وشعور القاعدة المحافظة المؤيدة للنظام الإيراني أن السقف المأمول من قوة الردع الإيراني قد جرى اختراقه على نحو لا يحفظ للأمة الإيرانية ماء الوجه، ولا يمنحها الثقة في منظومتها الأمنية والدفاعية، بل يجعلهم في قلق مستمر على المصير إزاء أي تصعيد قادم. كل هذا يلزم السياسي الإيراني بضرورة البحث عن قنوات حوار مع الولايات المتحدة من خلال دولة وسيطة في الوقت الذي بات فيه الرهان على هزيمة ترامب في الانتخابات المقبلة وقدوم إدارة جديدة أمر محفوف بالمخاطر. فمن يضمن أن يخسر ترامب الانتخابات المقبلة؟ ومن يضمن ألا يفرض على إيران المزيد من العقوبات التي تجبرها عند لحظة معينة على الاستسلام والتسليم بالشروط الأمريكية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.