شعار قسم مدونات

مجتمعات في قبضة السوق

blogs مجتمع

لا يُفهَم الاجتماعُ البشريُّ بمعزل عن السُّوق، ولا تُدرَك ثقافةُ المجتمعات بدون الأسواق؛ بعمليّاتها وأنظمتها وتقاليدها وتبادلاتها وفضاءاتها؛ وبما ارتبط بها من "علاقات إنتاج" ونشاطات متعدِّدة وأدوارٍ مجتمعيّة وتفاوتٍ في الكسْب والحظوة. لم تكن السُّوق وجهةَ بيعٍ وشِراءٍ وحسب؛ يوم أن كانت فضاءً محدّد النِّطاق تقريباً؛ فكيْف بها وقد تضخّمت في حضورها واتّسعت في تأثيرها على النّحو المشهود اليوم؟!

 

السوق في نسخها الجديدة

أعادت السُّوق إنتاجَ ذاتِها عبر المراحل، وطرأت على سلوك التسوُّق تحوّلاتٌ أفضت إلى اتِّساعه زمناً وانسياحه نطاقاً وإعادة تعريفه بما يتخطّى تلبية الحاجات إلى شغل الأوقات وممارسة الهوايات طلباً لما تُسمّى "متعة التسوّق" مثلاً، وهي مقولة روّجت لها السّوق تصريحاً وإيحاءً لاجتذاب الجمهور إليها وإذكاء النّهَم الاستهلاكي الجامح من خلالها. تُقدِّم السُّوقُ ذاتَها وجهةً للتّرفيه وشغل "أوقات الفراغ" – كما تُسمّى – وتتهيّأ مراكزها الكبرى للاستحواذ على مساحة أوسع من شواغل الفرد والمجتمع، وتتضخّم مواسم التسوُّق التي يُشَدّ إليها الرِّحال وفيها تتكثّف علاماتٌ ورموزٌ ومؤثِّرات تتسلّل عبر الحواسّ وتسعى إلى تطويع الوعي والنّفاذ إلى اللاوعي.

 

لا تكتفي السُّوق بتأثيرها في تربية المجتمع على طريقتها؛ فهي تعمل على إعادة صياغته بكيفيّات شتى، ولا يهمّ في هذا المقام إنْ كان ذلك مقصوداً تماماً من الشركات الضالعة في ذلك أم غير مقصود

كما انساحت السُّوق من نطاقاتها المكانية المُعَرّفة إلى فضاءاتٍ شبكيّة تُغري بالتسوُّق على مدار السّاعة وأيام الأسبوع دون أن يبرح المتسوِّقون مجالسهم، فقد تيسّرت معها إجراءاتُ الاقتناء بلا حاجةٍ إلى إمساكٍ بالنقد؛ فتعاقدات الشِّراء تُبرَم بلمسات معدودة تتراءى نبضاتُها على شاشات محمولة، بما يخفِّف وطأة الشعور بانتزاعِ مال عزيزٍ من الجيوب ودفع أثمان لسلع وخدمات؛ ما يستحقّ منها وما لا يستحقّ.

 

تتولّى ثقافة الاستهلاك تضخيمَ وَعيٍ زائفٍ عن سِلَع وخدمات محدّدة ومنحها أهمية لا تستحقّها وفوائد متوهّمة لدفع الجمهور إلى اختيارات لا مصلحة له في بعضها، فهي تُذكي نَهَم الشِّراء والمبالغة في اقتناء الأشياء بما يتجاوز جدوى الاستعمال المجرّدة أو فائدة الاستهلاك العملية. تحرص المتاجر الكبرى على تحويل الإقبال عليها إلى "متعة تسوُّق"، وتربط الأمنيات الحالمة بالشِّراء السِّلعي والاقتناء المادِّيّ من قبيل: "لدينا كلّ ما تحلم به"؛ وهو حلم يبدأ بعقد تصوّرات مسبقة عن العلامة التجارية ومتاجرها. وفي سبيل ذلك تحرِّض السُّوق جمهورَها على التعبير المادِّيّ عن قيم نبيلة ومشاعر جميلة، مثل الحبّ والحنان والتقدير والصداقة والزمالة، فيكون الاندفاع إلى مراكز التسوُّق استجابة مرئية للمشاعر المتحركة أو القيم المزعومة. انظر المقال السابق: "تسليع المشاعر وتسويق الرموز".

 

أجيال في قبضة السوق

تُرَبِّي السُّوقُ الأجيالَ حسب ثقافتها ورموزها، بدءاً من برامج الأطفال المكتظّة بالفواصل الدعائية التي ترغِّب بالاستهلاك وتطبع في أذهان الصِّغار ووجدانهم سلوكيّات استهلاكية وعلامات تجارية، ثم تستدرجهم المتاجر بأحابيل الجذب والترويج إلى زمرة المستهلكين خطوةً خطوة؛ كي تنتهي بهم إلى اقتناء ما قد لا يحتاجونه في الواقع.

 

لا عجب أن يَجتذِبَ الأطفالُ ذويهم في بعض المتاجر نحو سلعٍ مخصوصة من الأرفف مع تعريفها للوالديْن بعلاماتها وخصائصها مقرونةً بشخصيّات أسطوريّة التصقت بها في برامج الأطفال الأخّاذة وألعابهم البهجية التي تدفع بها الصناعة الثقافية المُعولَمة. تُحكِم السُّوقُ حلقاتها من حول شخصيّات الرُّسوم المُفضّلة وعناوين الألعاب الرائجة؛ فيكون البرنامج المُسلِّي أو لعبة الموسم المتفشِّية حلقةً من سلسلة استهلاكٍ ممتدّة تُوظِّف رمزيّاتٍ شخصيّة وعلاماتٍ بصرية ارتبطت بشاشات الفُرجَة واللّعِب؛ فتُتّخذ حيلةً لترويج سلعٍ شتّى من الملبوس والمأكول والمشروب والمُستعمَل في غير ذلك، بمفعولِ غوايةٍ محبوكة تَقعُدُ للأطفال في واجهات المتاجر وأركانها وأرففها كلّ مَرصَد.

 

ومن عادة السُّوق أن تفيضَ على الأطفال بما يحسبونها "هدايا" شتّى للاستعمال واللّهو؛ ساعيةً إلى تطويع مُستهلكي المستقبل وتكييف سلوكهم مبكِّراً بما يحقِّق استدامة الرّواج وتعاظُمَه. تمنح المتاجر منفوخاتٍ بهيجةً للصِّغار أو سُتراتٍ وحقائبَ ملوّنةً وغيرها مما تتفتّق عنها فنون الترويج؛ دون أن تَتَنبّه براءةٌ تشعّ بها أنظارهم إلى أنّهم صاروا بمعيّتها وسائطَ دعائية تتطوّع بالتحرِّك في الفضاءات العامّة والخاصّة في ترويج العلامات التجاريّة المحمولة، فيُسدي الطِّفل المُحتفي بهديّته الملوّنة خدمةً مرئيّةً لشركةٍ يحسب أنها جادت عليه بهذه المواد الترويجية تودّداً إليه. ومن التودّد المحبوك أن يبتسم مهرِّج "مكدونالدز" للأطفال في تماثيل وصور تترقّبهم عند أبواب مطاعم الوجبات السريعة، ابتغاءَ اجتذابهم إلى هذه السلسلة الكبرى التي ترنو مثل غيرها إلى ربط الأجيال بها وتعظيم الإيرادات الوفيرة من جيوب أسرهم.

 

حياة نموذجية على طريقة السوق

لا تكتفي السُّوق بتأثيرها في تربية المجتمع على طريقتها؛ فهي تعمل على إعادة صياغته بكيفيّات شتى، ولا يهمّ في هذا المقام إنْ كان ذلك مقصوداً تماماً من الشركات الضالعة في ذلك أم غير مقصود. يتأتّى بعض هذا للسّوق من خلال الضخّ الإعلانيِّ والترويجيِّ وتوظيف الثقافة البصريّة التي تتشبّع بها، بما تقترحه من قوالب نموذجية للحياة والسُّلوك وما ترسمه من أشكالٍ مرغوبة ومذمومة للأسرة وطبيعة العلاقات داخلها ومِن حولها.

 

تتأهّل ثقافةُ الاستهلاك لإعادة إنتاج شخصية الفرد وسِمات المجتمع وأنماط الحياة، وقد تتجاهل الجوهر الإنسانيّ والمغزى العميق للوجود أو تعيد تأويل ذلك بما يخدم مقاصدها؛ ولا يفوتها في هذا المسعى أن تتذرّع بالإنسان وتزعم انشغالها بتلبية احتياجاته وخدمة متطلّباته وحلّ مشكلاته وتحقيق سعادته. تتحايل هذه الثقافة الاستهلاكية على الفرد؛ بأن تغويه بصفة إيحائية بأنه تحديداً دون سواه من سيَبدو شبيهاً بنجوم الشّاشات مثلاً بمجرّد إقدامه على شراء صنف محدّد أو اقتناء سلعة مخصوصة أو التعاقد مع خدمة معيّنة، أو أنه سيتمثّل قيمةً نبيلة إن اشترى واقتنى، فيصير تدخينُ صنف من لفائف التبغ بطريقة معيّنة من الإمساك بها أثناء هذه العادة السيِّئة، كناية عن الحرية والانطلاق والثقة بالذات مثلاً؛ كما يأتي في الضخّ الترويجي بمسالكه المتعددة في الإعلانات والمقاطع وفي بعض ما يتسلّل إلى البرامج بأسلوب إقحام المُنتج في سياق مخصوص.

 

تؤدِّي ثقافةُ الاستهلاك الجامحة إلى اختلال أولويّات الإنفاق بتقديم كماليّاتٍ على أساسيّات، وتُلحِق أضراراً مُحتملة بمصالح المجتمع وحاجات أفراده في أصلها. يتعاظم هذا الاختلال في مجتمعات الأجهزة المحمولة التي قد يتطلّب اقتناؤها في بعض البيئات والأوساط غير الميسورة تفريطاً بالإنفاق على مصارف ذات أولويّة مؤكّدة للفرد والأسرة والمجتمع، ثم تفتح هذه الأجهزة بصورها ومقاطعها عيون الجمهور على ما لا يقتدر بعضُه على حيازته؛ بما يعزِّز مشاعرَ الإحباط والقنوط أو يدفع إلى مسالك غير سوية لتحصيل ذلك، ومن شأن ذلك أن يُفاقم الاختلال القائم في أولويات الإنفاق.

 

ثقافة الاستهلاك
تتضخّم ثقافة الاستهلاك على هذا النحو في سيول المقاطع الغنائية المصوّرة مثلاً، التي ترسم للمشاهدين في ثناياها أنماطاً نموذجيّة من حياة مُتخيّلة وسلوكٍ مُفترض؛ بما يدفع إلى إغراقٍ في الماديّة وتَمَحْوُر حول الذّات الفرديّة

إنّ اختزال معادلة السُّوق في إنتاجٍ واستهلاكٍ؛ أو في عَرْضٍ وطَلَب؛ لا يمنح تصوّراً كافياً عن مقدِّماتٍ ومُتلازِمات لا يصحّ إغفالُها. من ذلك، مثلاً، أنّ زيادة الإنتاج تقتضي ضمان زيادة الاستهلاك وتهيئة أذهان الجمهور لاقتناء ما قد لا يحتاجه أساساً. تَحرِص السُّوقُ من هذا الوجه على الدفع بمزيد من الكماليّات إلى نطاق الأساسيّات التي لا غنى عنها، بما يجعل اقتناءَها خياراً مرغوباً أو إلزاماً معنويّاً في "المجتمعات الحديثة"، بما يحدِّد المكانة الاجتماعية ودرجات التمايز والتفاوت بين الأوساط ويصير علامةً على الانتساب إلى وسط معيّن أو طبقة مخصوصة.

 

لا تنفكّ السُّوقُ في هذا المسعى عن استثارة الإحساس بحاجاتٍ جديدةٍ مزعومةٍ كي تتولّى بذاتها تلبيتها بترويج سلعٍ وخدماتٍ "تستجيب" للطّلب وتقدِّم "الحلول". وإن صحّ الزّعم بأنّ أبحاثَ السُّوق ودراسات الجمهور تتحرّى في ظاهرها تفضيلات "المستهلكين" ورغباتهم؛ فإنّ أدوات السّبْر والتقصِّي هذه تُكرّس أيضاً لاستدراجهم إلى الاستهلاك عبر التعرّف على فرص استمالتهم ومكامن تطويعهم. أي أنّ التعرّف المتواصل على الجمهور وما يستجدّ في سلوكه الاستهلاكي مدخلٌ لا غنى عنه لمحاصرته بألوان الاستهلاك المستجدّة ومراودته عن جيْبه؛ وقد يُستدرج المستهلك إلى الشراء والاقتناء بعد تغليق أبواب التّفكير المُستقلّ في أسئلة المغزى والجدوى من ذلك.

 

لا مجال للزهد

للسُّوق مشكلتها مع الاحتفاظ بسِلعة صالحة للاستعمال أمداً طويلاً، أو مع توريث السِّلعة الجيِّدة أو تمريرها من مُستخدِم إلى مُستخدِم في النِّطاق الاجتماعي المُباشِر (تنتفع السُّوق من بعض التّمرير والتّبادُل عن طريقها مثلاً لتتربّح من أدوار الوساطة). يبدو الاحتفاظ بالسِّلعة فكرةً مرذولةً اليوم في مجتمع يرضخ لمنطق السُّوق بعد أن ازدرتها الثقافةُ الاستهلاكيّة المدفوعة بالتّرغيب في "أجيال جديدة" من المُنتجات. ومن شأن التغيير الدؤوب في اتِّجاهات تصميم الملابس والأثاث والأجهزة والسّيارات مع كلِّ موسم أن يُنعِشَ حالةَ شراءٍ وتبديلٍ متلاحقة تُفاقم النّزعة الاستهلاكية.

 

لا تحتمل السوق قيَمَ الزُّهْد في العيْش والقناعة بما في الأيدي، فثقافة الاستهلاك تُحَرِّض على الاغتراف من الدُّنيا وتقف في هذا على النقيض من التّوصية العُمَرية الثاقبة: "أكلّما اشتهيْتم اشتريْتم؟!"؛ التي جاءت في بعض كتب الآثار في سياق الحضّ على الإنفاق على ذوي الحاجة في المحيط الاجتماعي. تَجرِف السُّوقُ في طريقها تقاليدَ القناعة ومفاهيم "الاكتفاء الذاتيّ" في المجتمعات المحلِّية، ولا تتوانى ثقافتُها الاستهلاكيّة عن اقتحام الأرياف وبلوغ البوادي؛ فتُحدِث اضطراباً في مفاهيم تنتظم معها كيفيّات الحياة وأنماط العيش وطرائق التصرُّف.

 

تأنَفُ ثقافة الاستهلاك الزُّهدَ ولا تكترث بالتّواضع، فقوامها تزيينُ الاغتراف من الدُّنيا وتعظيم المظاهر الشكليّة؛ وقد يتقدّم الشّكْل معها على المنفعة؛ لأنّ الشكل ذاته قد يُطلَب لعلامته التجارية ورمزيّته البازعة في الوجدان الجمعي. وإنْ مالَ الجمهورُ إلى اختياراتٍ محسوبة في شكلها أو فحواها على القناعةِ والتقشّف، مثل ارتداء ثيابٍ مهترئة أو خِرَقٍ تالفة؛ فإنّ السُّوق تندفع بلا هوادة للاستثمار في هذا الاختيار "التقشّفي" فينقلب معها إلى منحى استهلاكي له أثمانه المبذولة بسخاء، كما يتجلّى في صناعة الثياب الممزّقة والتالفة ذاتها المعروضة للبيع في واجهات المتاجر لقاء مبالغ قد تفوق نظيرتَها "السليمة".

 

لا تُعرَضُ السِّلعةُ أو الخدمة على أساس منفعتها المجرّدة وحسب؛ فقد تُقدّم هذه أو تلك بالأحرى تعبيراً عن نمط شخصيّة نموذجية وأسلوب حياة مثاليّ وطريقة تفكير نوعيّة أو غير ذلك. تتضخّم ثقافة الاستهلاك على هذا النحو في سيول المقاطع الغنائية المصوّرة مثلاً، التي ترسم للمشاهدين في ثناياها أنماطاً نموذجيّة من حياة مُتخيّلة وسلوكٍ مُفترض؛ بما يدفع إلى إغراقٍ في الماديّة وتَمَحْوُر حول الذّات الفرديّة. يُواصل المقال التالي التجوال النقدي في السُّوق وفحص شعاراتها وتعقّب أوهامها، وتمحيص مصداقيتها في ما تستعمله من قيم وتوظِّفه من مبادئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.