شعار قسم مدونات

كورونا في الصين.. استدعاء بالصوت والصورة

blogs فيروس كورونا

قبل نحو عشرة أعوام، كنت ضمن وفد إعلامي عربي في زيارة إلى واحد من أكثر الأحياء الشعبية فقراً في الصين (قرية ليان نان، الواقعة بمقاطعة غوانغ دونغ جنوب البلاد)، وهي بالمناسبة موطن لقومية ياو الصينية التي تشتهر بطول شعر نسائها. لفت نظري أثناء تجوالنا في أزقة القرية، كثرة الفئران المجففة المنشورة على الجدران، بطريقة تشعر فيها أنك في متحف للحيوانات المنقرضة. سألت المترجم الصيني عن الغاية من عرض الفئران بهذه الصورة، فأجاب: لغرض البيع. وهل هناك من يشتريها؟ نعم. وماذا يفعلون بها؟ يأكلونها. أنت تمزح. رد ضاحكاً: "نحن الصينيون نأكل كل شيء عدا طاولة الطعام".

لمن يجرؤ

تذكرت هذا المشهد قبل يومين، وأنا أتابع مقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية، لفتاة من الجنوب تصور نفسها وهي تأكل خفاشاً مشوياً بصورة مقززة، وقد علق نشطاء أسفل الفيديو بأقذع الكلمات، متهمين سكان الجنوب بأنهم السبب في نشر الفيروسات الغريبة والخطيرة داخل المجتمع الصيني، وعزا هؤلاء ذلك إلى طبيعة الطعام في جنوب ووسط البلاد، وافتقاره إلى أدنى الضوابط والمعايير الصحية.

وتزامن نشر الفيديو مع فيديوهات أخرى لحملة تحدي أطلقها نشطاء عبر تطبيق تيك توك، (غالبيتهم من الجنس الناعم) تقضي بأن يقوم المستخدم بنشر مقطع فيديو لا يقل عن عشر ثوان، وهو يأكل نوعاً غريباً من الأطعمة، كالقنافذ والضفادع، والفئران والخفافيش المشوية، والصراصير المقلية، والمأكولات البحرية الحية، وروؤس الثعابين، وأكباد السلاحف، وأفخاذ الكلاب والقطط.

سلامة الأغذية
مع تفشي الفيروس المنتمي لعائلة الفيروسات التاجية، والمخاوف التي أثارها، شرعت السلطات الصينية مؤخراً في إغلاق أكثر من خمسين سوقاً شعبياً في إحدى عشرة مدينة، كما تم الإعلان عن فرض قيود جديدة على عمل هذه الأسواق

مثل هذه الفيديوهات بدأت تنتشر بصورة غير مسبوقة خلال اليومين الماضيين، في محاولة من الصينيين للبحث عن مسببات ظهور الفيروس الجديد الذي قضى منذ ظهوره في ديسمبر الماضي بمدينة ووهان وسط الصين، على أكثر من 30 شخصاً، فضلاً عن إصابة ما لا يقل عن 880 شخصا، بمتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد المرتبط بالفيروس. ورغم أن هذه المقاطع القصيرة لا تمثل دليلاً أو إثباتاً طبياً على أن تناول هذا النوع من الطعام هو السبب في ظهور الفيروس، غير أن تداولها بدأ يطرح تساؤلاً واسع النطاق عن سلامة الأغذية في الصين، والتقصير الحكومي في ضبط هذه المسألة، وإحكام الرقابة على عمل المطاعم، وطبيعة الطعام، ومراعاة الشروط والمعايير الصحية، خصوصاً في جنوب البلاد.

لماذا الجنوب؟

يشتهر سكان جنوب الصين بشغفهم بأكل الحيوانات البرية، ولذلك جذور ثقافية وسياسية عميقة، مرتبطة بفترة المجاعة التي عانى منها الصينيون في خمسينيات القرن الماضي. ففي الوقت الذي يولي فية الغرب أهمية كبيرة لحماية الحياة البرية، ينظر الصينيون إلى الغذاء (الحيوانات البرية) باعتباره حاجة أساسية، لأن الجوع يشكل تهديداً كبيراً بالنسبة لهم، وجزءاً لا ينسى من ذاكرتهم الوطنية. بل أكثر من ذلك، أصبح تناول هذا النوع من الحيوانات، بمثابة مقياس للهوية في الصين، فوفق قائمة طعام الشخص، يتم تحديد مسقط رأسه.

وحسب دراسة بحثية أجرتها قبل ثلاثة أعوام، جمعية صينية تعنى بالحفاظ على الحياة البرية، فإن أكثر من 65 في المئة من سكان الجنوب لا يزالون يحتفظون بعاداتهم في أكل الحيوانات البرية، حتى بعد ظهور فيروس سارس في مقاطعة غوانغ دونغ الجنوبية عام 2003، والذي قضى على أكثر من ثمانمئة شخص في حينه. وربما يفسر ذلك سبب وجود مئات الآلاف من المطاعم الشعبية والمتاجر غير المرخصة في الجنوب، والمختصة في بيع الدواجن الحية والحيوانات البرية، وهي أشياء لا يمكن أن تراها في مقاطعات ومدن أخرى مثل بكين وشانغهاي.

ولكن مع تفشي الفيروس المنتمي لعائلة الفيروسات التاجية، والمخاوف التي أثارها، شرعت السلطات الصينية مؤخراً في إغلاق أكثر من خمسين سوقاً شعبياً في إحدى عشرة مدينة، كما تم الإعلان عن فرض قيود جديدة على عمل هذه الأسواق، ما يحمل اعترافاً ضمنياً بأنها أحد مسببات ظهور الفيروس الجديد. ولو تم الجزم بهذا الأمر مستقبلاً، فإن ذلك يعني أن المشكلة الحقيقية تكمن في سلوك الإنسان، وليس الحيوان. وتلك مأساة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.