شعار قسم مدونات

جنرال أراد اللعب مع صانع اللعبة فاحترق بنارها

blogs قاسم سليماني

يندرج اغتيال جنرال الغزو الطائفي للعراق وسوريا قاسم سليماني في بغداد هذا اليوم في إطار "سياسة التوتّر النافع" التي تنتهجها الولايات المتّحدة الأمريكيّة -تحت حكم ترمب- تجاه إيران (مقالي الأخير بالجزيرة نت)، كما يشير هذا الحدث إلى تحديد السقف الذي يجب أن لا تتجاوزه إيران بالمجال العربي وتذكير ملالي طهران أنّ واشنطن لا تزال سيّدة الموقف في الخليج العربي، ولن تسمح لهم بالانقلاب على الدور الوظيفي المنوط بهم منذ احتلال العراق سنة 2003، وقتل الرئيس صدّام حسين بأيدي مليشيات شيعيّة موالية لإيران. إذ كانت السياسة الأمريكيّة ولا تزال تهدف إلى وأد أيّ قوّة عربيّة سنّية ناهضة لها امتداد بشري وجغرافي يصل الخليج بالأطلسي.

   

وقد تطوّر الدور الوظيفي الذي لعبته إيران بالمنطقة العربيّة على مدى عقدين من الزمن، موازاة مع تمدّد نفوذها وانتشار قوّاتها من العراق ولبنان، إلى سوريا واليمن في العقد الثاني من هذا القرن. ففي العقد الأوّل، سمحت إدارة الاحتلال الأمريكي في العراق لإيران ولوج المجتمع السياسي عبر البوّابة المذهبيّة لتحيي النعرات الطائفيّة وتذكي التوتّرات المذهبيّة داخل المجتمع العراقي الذي انقسم بين مقاوم ومهادن للاحتلال الأمريكي على قاعدة المرجعيّات المذهبيّة (سنّي/شيعي)، وذلك على خلفيّة أنّ أهل السنّة كانوا يمثّلون النّظام المهزوم في مقابل الطائفة الشيعيّة الوافدة لحكم العراق الجديد، بمباركة الحاكم بريمر.

   

في تلك الفترة أطلقت إيران العنان لمليشياتها وللأحزاب الموالية لها للتنكيل بأهل السنّة واستباحة حرماتهم ودماءهم، وقد ساعدهم في ذلك ظهور تنظيم الزرقاوي الداعشي كعنصر وظيفيّ آخر يساعد في خلط الأوراق، والتغطية على المجازر الصفويّة والأمريكيّة لأهل العراق المقاوم للاحتلال وروافده الإقليميّة… كلّ هذا كان يخدم السياسة الأمريكيّة الرامية إلى نشر حالة من الانقسام الاجتماعي والفرز السياسي على قاعدة الطائفة والمذهب داخل المجتمع العراقي، ما يجعل منه بلدا مفتوحا على صراعات وفتن أدواتها بالداخل وإدارتها بالخارج، فأنتج كلّ ذلك دولة عراقيّة متشظّية وغير مستقرّة.

    

ام جديد يحلّ بالمنطقة (2020)، ولا جديد بها سوى رحيل جنرال فوق ركام من مآسي خلّفتها حروب الفتنة، ولعبة المحاور، واستبداد الحكّام

في العقد الثاني، وعقب موجة الثورات العربيّة الأولى، صار الدور الإيراني أكثر عدوانيّة تجاه بلدان الربيع العربي، خاصّة عند وصولها إلى دمشق وصنعاء وتداعت أنظمة الحكم فيهما إلى السقوط. لم يتأخّر الضوء الأخضر الأمركي زمن أوباما لإيران فسمح لها بالتمدّد غربا نحو سوريا وتخوم لبنان لحماية نظام الأسد الطائفي… فكان ما شاهده كلّ العالم من ويلات ودمار شامل حلّ بسوريا وأهلها، فقتل من قتل، وتشرّد من تشرّد، والقائد سليماني يصول ويجول على رأس جيشه الطائفي الجرّار منتشيا بانتصاراته على شعب خرج على حاكم ظالم منذ عام 2011. وعندما همّ بشرب نخب انتصاره مع الجنرال الروسي المقيم معه بدمشق عام 2019 تباغته موجة ثانية من ثورات العرب كانت بغداد -التي يعتبرها عقر داره- هذه المرّة من بين عواصمها، فهرع إليها لإخماد نار ثورتها المتّقدة.

   

عندما لم يفلح الجنرال في إخماد جذوتها، ناور بالممنوع عليه فاقترب من بيت العنكبوت الأمريكي، محاولة منه لإيهام الرأي العام العالمي أنّ ثورة العراقيّين هي في اتّجاه غير الذي عبّر فيه الشباب عن سخطهم وغضبهم تجاهه، أيّ المحتلّ الإيراني (الوظيفي) لبلدهم، ليصوّرها ثورة ضدّ الإدارة الأمريكيّة مستعملا في ذلك مليشيات الحشد الشعبي للغرض.

   

كان السيناريو الذي رسمه الجنرال الإيراني بهجوم بعض الجموع على السفارة الأمريكيّة ببغداد ومحاولة حرقها نقطة تحوّل كبرى تشير إلى محاولة استنساخ التجربة السوريّة بالعراق -دون إذن أمريكي بذلك-، ما اعتبرته الولايات المتّحدة الأميركيّة ساعة صفر غير معلنة لمحاولة انقلابيّة تستهدف مصالحها ومخطّطاتها بالمنطقة، فساعة الصفر التي أطلقها عمليّا قاسم سليماني وحلفاؤه من ميليشيات الحشد الشعبي العراقي كانت تهدف إلى تخريب ثورة الغضب الشعبيّة ضدّ النظام الطائفي البغيض وروافده الإيرانيّة بالعراق، ومحاولة مفضوحة لتحويل وجهتها نحو جهة خارجيّة يعلم الجميع أنّها ليست في سلّم أولويّات المعركة الحاليّة، وإن كانت دون أدنى شكّ مدرجة ضمن قائمة المعارك القادمة ضدّ أعداء العراق التاريخيّين.

  

من خلال حادثة السفارة الأمريكية ببغداد أرادت إيران عبر الجنرال سليماني وأحلافهم بالعراق ضرب عصفورين بحجر واحد: من جهة تخريب الثورة الشبابيّة السلميّة ضدّ النظام من داخلها بمحاولة تشويه صورتها أمام العالم، والزجّ بها في أتّون العنف وصراعات المحاور العالميّة، ومن جهة ثانية التخلّص من هيمنة أمريكيّة قدّرت أنّها في حالة وهن وحان الوقت للتخلّص من ظلّها الثقيل بالمنطقة، ظنّا منها أنّها والحليف الروسي (الأجير الرخيص للصهيونيّة العالميّة) قادرين على تخليص المنطقة من الوجود الأمريكي بجرّة قلم (هكذا)!!! عام جديد يحلّ بالمنطقة (2020)، ولا جديد بها سوى رحيل جنرال فوق ركام من مآسي خلّفتها حروب الفتنة، ولعبة المحاور، واستبداد الحكّام، جنرال أراد اللعب مع صانع اللعبة فاحترق بنارها.. فكم من مظلوم دعى ربّه بجوف الليل، وكم من بريء سفك دمه على أرض سوريا والعراق، وكم من انسان انتهك عرضه.. والله حسيب رقيب، ولله عاقبة الأمور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.