شعار قسم مدونات

كيف يتحول الحب حربا؟!

blogs طلاق

حرفٌ واحدٌ يفصلُ بين الحاءِ والباء، يقلبُ الأمور رأسًا على عقب، ويحوِّلُ الحياةَ إلى حربٍ طاحنة، كاختلالٍ في معادلةٍ كيميائيةٍ ينتجُ عنه انفجار، ونواتج شاذة عن القاعدة تلحقُ الضرر بما حولها، كالقشةِ التي قصمت ظهرَ البعير فلم يعد يحتمل ثقلَ قشةٍ، أو ريشةٍ لفرط ما احتمل سابقًا.

 

إن الحبَّ هو أصلُ الحياةِ كلها، وأساس قيامها واستمرارها، بدأت به البشرية بآدم وحواء، وبأمر الحبِّ أخذ بكلامها بعد وساوس الشيطان لها، وأكلا من الشجرة التي نهيا عنها، فطر الله الحبَّ بين الإخوةِ فلما دخل الحسدُ والغيرةُ بينهم صُهرَ الحبُّ، وتحول حربًا بقتل قابيل أخاه هابيل، إذن فالحبُّ دومًا هو الأساس ما لم تعصف به رياحُ الغدرِ والشر، وتفتك به.

 

لطالما الحبُّ كان ما حرَّكَ مشاعرَ الشعراء، وأنجبَ أعظمَ الكتابِ والأدباء، الحبُّ هو ما وفَّق بين رسولنا عليه السلام وخديجة التي تكبره بخمسة عشر عامًا، وكان كافيًا ليلغي أي اعتبارات وفروق، هو ما جعله يبر حتى صديقاتها بعد موتها، فالحبُّ الصادق هو ما يستمر، ويقوى بمرور الأيام لا يضعف؛ لأنه حبٌّ روحيٌّ بالدرجةِ الأولى، مقدسٌّ برباطٍ وثيق، الحبُّ هو ما جعلَ قيس بن الملوح يموت وحيدًا هائمًا على وجهه في الأرضِ لشدة حبه لليلى، وعدم قبول أهلها بتزويجها له.

 

تعلَّموا الحب أولًا، واعلموا أن الحب الحقيقي لن ينبع إلا من إنسان أحب نفسه وقدَّرها، الحبُّ الحقيقي لن يمنحه لك أحد أكثر من نفسك

أما عن الحب اليوم، وما يدور بين كثيرٍ من الأزواج في حياتهم هو تمثيلٌ للحب على مواقع التواصل، وكلمات غزلٍ على الملأ، وحرب ضروس بين جدران الزوجية، وهذا ما حدث بالأمس القريب في غزة مع "صفاء" ذات الخمسة وعشرين ربيعًا، أم الثلاثة أطفال عندما قتلها زوجها خنقًا، ربما لأنه كان تحت تأثير جرعةٍ مخدرة كما يُقال، سمع الجيران صوتها فظنوا أنه يضربها كالعادة! وأهلها يعلمون أنه كثيرًا ما يضربها، لكنهم تركوها لتعود لهذا الجحيم من أجل أطفالها، يضربها ويهينها ثم يغازلها على المواقع ليدحض الشبهات عنه على الملأ، تتشابه هذه القصة إلى حد كبير مع قصة امرأة جرش التي فقدت عينيها في رحلة صبرها المضنية، وغيرها من قصص آخذة بالازدياد في ظل مجتمعٍ يفتقدُ للحب، ويتغنى به، ويحتفل به!

 

ما بين الحاء والباء في حياة صفاء كانت رحلةً طويلةً من رجاءٍ، ورحماتٍ ضالة مفقودة، فلم تنشب الحرب بينهما بليلة وضحاها، فلماذا وإلى متى التمسك بحياة نهايتها ساطعة على جبين الحقيقة من أجل ادعاء أن الطلاق وصمة عار، وأن الأولاد يحتاجون أبًا حتى وإن كان فاقدًا للصلاح والأهلية! ربما يُدرج هذا تحت ما يقال عنه "ومن الحب ما قتل "ليس لشيء إلا لأن فهم الحب كان خاطئًا، أو لأن الحب كان على حسابِ النفس وطاقتها المُستَنزَفة.

 

فحبُّ الأمّهاتِ الشديد لأطفالهن يقتلهم وهم أحياء عندما ينسين نفسهن، وحقها عليهن في رحلة التضحية المَغلوطة، فلا أحد سواهن سيحس بألمهن، لا أحد سيمنحهن شيئًا من أعضائه إن فقدنها في رحلةِ صبرهن المجحفة، لا أحد سواهن يعرف تفاصيل يومهن، أو يبصر دموعهن المخلَّلة في أعماقِ روحهن، فأين الحب في مجتمعنا ! أين الحب في قلوبنا وأُُسَرنا! أين الحبُّ في وقفتنا مع غيرنا! وبأي عينٍ ترون أن للحب عيدًا، وأنتم في مجتمع لا يلتفت حقًا إلا للأموات .

 

مجتمعٍ لن يقدم لضحاياه المعذَّبات سوى إكليل زهر على ضريحهن، وسطور رثاء على مواقع التواصل إن ذهب منهن ضحية عنف، تعلَّموا الحب أولًا، واعلموا أن الحب الحقيقي لن ينبع إلا من إنسان أحب نفسه وقدَّرها، الحبُّ الحقيقي لن يمنحه لك أحد أكثر من نفسك، وبقدر عطائك للآخرين دون نسيان ذاتك، الحب الحقيقي هو ما يتجلى عند الخلاف، فالحب الصادق الحقيقي لا يمكن أن يتحول كرهًا أو إهانة أو تسلطًا.

  

وكما قال العظيم محمود درويش:

عندما تريدون الرحيلَ ..

ارحلوا .. لكن لا تعودوا أبدًا..

كونوا لرحيلكم أوفياء ..

لعلنا نكون أيضًا لنسيانكم مخلصين !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.