شعار قسم مدونات

التنويري والخَلق العجيب

blogs تأمل

أثناء عبوري من تلك القرية الغريبة التي بدت وكأنها لا تنتمي لأرضِنا، أوقفتُ العَرَبة من فضولي لأنظرَ ما بالُ هذا الجمع من الناس منهمكا بتعبئةِ أكاياسٍ بيضاءَ اللونِ كبيرة، شكَّلها نسيجٌ معقد خفيف وشفاف لم أرَ مثيلا له من قبل، كانوا يملأونها من خلقٍ عجيب خُيِّل إليّ أنه غيمُ السماء وقد نزل على الأرض بكثافة يلامسها، لم يكن ذلك خيالا كما اعتقدت، بل كان حقيقيا حتى أني شاهدت تلك الأكياس وهي تمتلئُ منه امتلاء الوعاء بالشئ الصلب شهي المنظر حين تتوق نفسك لتذوقه على الرغم من أنك لم تعهد طعمه من قبل.

ترجلتُ وذهبت صوب الجمع، وكلما اقتربتُ خطوة زاد شعوري ببنية غيم السماء هذا وهي أشاهدُها تنحشرُ داخل الأكياس الغريبة النسيج بفعلِ أيدي المعبِّئين، كان الناس رجالا ونساء ما زالوا منهمكين بجمع وتعبئة هذا الغيم ولم يشأ أحدا منهم الإلتفات إليّ حتى، مع أن مظهري ولباسي وعَرَبتي وخيلي وأنا، كلنا كنا غريبون عنهم وعن عالمهم، غير أن كهلاً كان يقف بالبعيد بدا غير مهتما بالمرة بهذه الغيوم وجمعها أشار إلي بأن أدنو منه، وفور وصولي إليه قال لي، هذا ما نطلق عليه، دموع الملائكة، وكان يشير إلى الخلق العجيب بإصبعه الذي شابه إلى حد بعيد أصابع أحد الصحفيين الذين كنتُ أقرأ لهم، كان صحفياً عظيماً لكنه مُدَلِّس.

سألته من ذهول هذه المرة، حين كنتُ لم أزل أحاول ترتيب ما قاله لي في عقلي ووجداني وتفنيده وتشذيبه علّي أفهم بعضاً منه، فما بالك لا تنهمك أنتَ أيضا معهم بتعبئة كيس لك من دموع الملائكة؟

جَمَعَ اسمه بين أعظم الخلق ومُثنى الحَسن وهياكل الأشياء، ثم تابع قائلا بأن دموع الملائكة تأتينا مرة كل عام وفي هذا الوقت بالتحديد، والناس هناك منهمكون كما ترى بتعبئتها قبل أن تختفي فجأة، فسألته، وماذا يصنعون بها؟ حين أجابني بالقول أنهم يبيعونها للمرضى الذين يعانون من تقرحات جلدية أو عقم أو سوءٍ في الهضم، ويقال أنها تعالج العشى الليلي أحيانا، أولئك المرضى المساكين الذين يأتون إلى قريتنا في مثل هذا اليوم من كل عام من القرية التي خلف الجبال هناك، عندما أشاح بإصبعه الطويل مجددا صوب سلسلة جبال كانت تبرز من خلف الأفق الضبابيّ البعيد.

قلت له، يبدو أن هذا الموسم غاية في الأهمية بالنسبة لسكان قريتكم، فقال لي بأن حِرفة جمع دموع الملائكة وبيعها هي الحرفة الوحيدة التي يعرفها ويتقنها أهل القرية ويعتاشون منها ولا يريدون احتراف أي شئ آخر، ثم قال لي أيضا بأن سكان تلك القرية التي خلف الأفق الضبابيّ يأخذون دموع الملائكة هذه حين تتحول إلى مياه داخل أكياس النسبج الغريب أثناء عودتهم، فيشربون منها ويغتسلون، فتبرأ أجسادهم من الأمراض والخبائث، فهم يكدون ويعملون طوال العام من أجل أن يدَّخرون أثمانها ليوم دموع الملائكة كهذا اليوم، فسألته مجددا، وما الحِرفة التي يمتهنونها بدورهم؟ أجابني بأنهم لا يمتهنون أي حرفه عدا أنهم ينتظرون الصيف من كل عام حين يحج إلى قريتهم أهلُ قريتنا نحن ويدفعون لهم النقود كي يحثوا ناسكهم الوحيد بأن يتضرع إلى ربِّهُ من أجل أهل قريتنا ليَمُنَّ علينا بموسم دموع الملائكة من جديد في الشتاء القادم.

سألته من ذهول هذه المرة، حين كنتُ لم أزل أحاول ترتيب ما قاله لي في عقلي ووجداني وتفنيده وتشذيبه علّي أفهم بعضاً منه، فما بالك لا تنهمك أنتَ أيضا معهم بتعبئة كيس لك من دموع الملائكة؟ حين أخرج من جيبه قارورة لؤلؤية كان لِتَلألؤِ الضياء وهو يَشِعُّ منها بينما كان يقلبها في كفه أخَّاذاً خاطفاً للأبصار والقلوب، فتعجبتُ من هذه القارورة وما حوت حين بدت كاللؤلؤ المكنون، فسألته للمرة الألف على وجه السرعة حين تراءى لي بأن العربةِ التي ترجلتُ منها بدت وكأنها تتحرك ببطء خلف الخيل التي تركتُها تسيمُ بعشبٍ غضٍ زاخرٍ وقد اكتف، ما هذا يا رجل؟

فأجابني بصوت خافت هذه المرة وكأنه لا يريد لأحدٍ غيري سماعه، حين أمسك بعناية فائقة القارورة اللؤلؤية العجيبٌ تلألؤها وقال، هذا إكسيرُ التنوير، لقد ابتعته لتوي مقابل مالي كله من قرية بعيدة هناك خلف الجبال كلها، وتخلصت من يوم دموع الملائكة هذا إلى الأبد، وسأحتاج قارورةً مثلها كل عامين اثنين، يا إلهي لقد وقع إخبار الكهل على مسامعي وأنا أنظر إلى الخيل والعربة وقد اختفين جميعا داخل هالة عظيمة من الخلق العجيب الكثيف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.