شعار قسم مدونات

صدام يختلف عن السيسي مطلقا وسد النهضة كارثة

blogs السيسي

((قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالفُرَاتُ، وَأَمَّا البَاطِنَانِ: فَنَهَرَانِ فِي الجَنَّةِ)) حديث رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-

 

هناك من يرى أن أزمة سد النهضة الذي دشنته السلطات الأثيوبية على نهر النيل أمر يخص دول المجرى وبالأخص مصر فقط ولا علاقة للآخرين بالأمر. والأدهى والأنكى أن هناك من يحسب أن الضرر يقع على النظام العسكري في مصر، وأنه سيجني حصاد سياساته انهيارا في منظومة حكمه، وأن انعكاسات السد السلبية المتوقعة وعلى رأسها الفقر المائي في مصر، ستضعف النظام بتسارع يقود إلى سقوطه. والحقيقة أن سد النهضة وإن كان يمس مصر أكثر من غيرها سلبيا، فإن للأمر انعكاسات على المنطقة بأسرها، كما أن النظام العسكري ليس المتضرر الحصري، لو فرضنا أنه سيتضرر أصلا، من هذا السد.

 

حصار العراق

بعيد اجتياح القوات العراقية للكويت في آب/أغسطس 1990 فرضت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها مستعينة بل مُسخِّرة مجلس الأمن الدولي وسائر هيئات وأجنحة الأمم المتحدة، عقوبات مشددة مختلفة على العراق، ومن ضمنها حرمانه من تصدير النفط، وهو عصب اقتصاده؛ إضافة إلى سلسلة عقوبات اقتصادية أخرى، جعلت العراق يعيش حالة حصار خانق جدا. ولم تفلح العقوبات في دفع صدام حسين إلى الانسحاب من الكويت؛ وهو أمر استدعى عملية عسكرية شاركت فيها أكثر من ثلاثين دولة، وكان يفترض أن ترفع العقوبات أو أن تخفض إلى حد معقول بعد إتمام الانسحاب وعودة الوضع إلى سابق عهده في الكويت. ولكن الحصار استمر مفروضا بقسوة على العراق، تارة بحجة -تبين كذبها- تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، وحجة أخرى كانت تتردد على ألسنة بعضهم أن الهدف هو إسقاط نظام البعث بزعامة صدام حسين، عبر جعله هشّا ودفع الناس إلى الثورة والتمرد عليه.

 

جاع الشعب واستمر النظام!
السيسي يحكم بلدا يشهد عبر تاريخه ثورات متباعدة زمنيا، بينما صدام حكم العراق المعروف منذ تاريخ طويل بعنفوانه وتمرده وكمون الثورة فيه، وصعوبة انقياد أهله المميزين بالفتوّة وشدة المراس والصلابة، إلى الحكام

ولكن الحصار تسبب في فقر وجوع ملايين العراقيين الذين حرموا من الغذاء والدواء، وتسبب الحصار في كوارث بيئية في البلاد، وفرار كوادر بشرية، والعراق غنيّ بكفاءاته العلمية والأدبية المميزة. كما وظهرت في بلاد الرافدين ظواهر ومسلكيات اجتماعية غريبة عن أهلها، وتراجعت الخدمات إلى أخفض مستوياتها خاصة في المجال الصحي. وبالتوازي مع ذلك فقد أثرى (عديّ) من تبعات الحصار عبر (بزنس التهريب) وهو أمر بدهي في ظل حصار خانق جائر، تفرضه دول عظمى وكبرى وتسانده جارات العراق، والمستفيد من التهريب وصفقاته والسوق السوداء وأرباحها بطبيعة الحال هم رجالات النظام الذين يتحكمون بكل أدوات الحكم والسلطة الشمولية. ولم يتراجع مستوى البذخ الذي يحياه قادة النظام وعوائلهم، ودائرتهم الضيقة، وهم الذين كانوا شماعة استمرار الحصار، بل رأى العالم كيف ينفقون على الحفلات الفارهة.

 

بل إن النظام البعثي زاد من مناكفاته المتحدية لمن يفرضون الحصار ومن يصفقون له ويدافعون عن أهميته كوسيلة فعالة ستؤدي إلى انهياره، بإبراز مظاهر يستعرض فيها قوته ولامبالاته، مثل تشييد مباني وقصور تكلف مبالغ طائلة، رغم الحصار الذي يفتك بالشعب. كما أن صدام حسين عزز وضاعف قبضته الأمنية الباطشة، وصار بفعل هواجس الإطاحة به أو الانقلاب عليه يبطش حتى ببعض رجاله، واستعد صدام فعليا لتوريث (قصيّ) مقاليد الحكم، بتصعيده في قيادة الحزب، وزيادة نفوذه في الجيش والأمن، وزاد من التحدي الاستعراضي بتنظيم استفتاء سوريالي نتيجته تأييد 100% من العراقيين بقاءه في الحكم! ولم يتمرد الناس ولم يثوروا في وجه النظام، وإن كانوا له كارهين، ولو استمر الحصار خمسين سنة أخرى، لبقي النظام مهيمنا على المشهد مستعينا بمخارج ومنافذ متاحة في نظام الحصار وآلياته، تصب في صالح تعزيز وتقوية سلطته، وفي نفس الوقت تزيد من قهر الإنسان العراقي المطحون، بين مطرقة الحصار وسندان النظام.

 

كان لا بد من استعراض هذا التاريخ لاستخلاص الدروس والعبر.. فنحن في هذا الفضاء العربي، نعيش حالة يدفع فيها المواطنون العاديون البسطاء كلفة بقاء الأنظمة في حال وقعت أزمات سياسية أو اقتصادية، بحيث تظل الأنظمة تمسك بخناقهم، وتضاعف من أرصدة وثروات قادتها، ويصبح المواطن العربي في حالة يرى فيها أن الموت أرحم له من الحياة، أو يسعى إلى الفرار والنجاة بنفسه في أرض غريبة. وسدّ النهضة يذكرنا بالضرورة بحصار العراق، مع فوارق جوهرية، تؤكد أن وضع النظام العسكري في مصر في حالة أفضل، من حيث استمرارية السيطرة في ظل الأزمة المتوقعة.

 

السيسي مختلف عن صدام تماما

ومع أنني تعمدت استحضار مثل صدام حسين، كحالة تتعلق بعدم تأثر بقاء النظم الحاكمة والعائلات المتنفذة بالأزمات بل وحتى الكوارث التي تصيب البلاد، ولكن نقاط قوة السيسي أكبر.. على الأقل حاليا. فالسيسي يحكم بلدا يشهد عبر تاريخه ثورات متباعدة زمنيا، بينما صدام حكم العراق المعروف منذ تاريخ طويل بعنفوانه وتمرده وكمون الثورة فيه، وصعوبة انقياد أهله المميزين بالفتوّة وشدة المراس والصلابة، إلى الحكام، ومع ذلك استمر حكم صدام حسين 35 سنة.. منها 12 سنة من الحصار المشدد.

 

والسيسي علاقته بالأنظمة العربية التي حاصرت صدام وحاربته وكرهته وحرضت عليه وبذلت ما بذلت لإسقاطه، علاقة وطيدة؛ بل هي داعم له بالمليارات. كما أن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا لا تقاطع السيسي وتعتبره ضمانا قويا لاستقرار مصالحها الاستراتيجية في مصر والمنطقة، وتمنحه شرعية البقاء وتغض الطرف عن كل ممارساته التي قد تعيبها على غيره.. وإسرائيل-وهي كلمة السر في تقرير وضع المنطقة- راضية تماما عن السيسي خاصة في ملف غزة، ومع أنني أميل كثيرا إلى قناعة بأن السد الأثيوبي (النهضة) يحمل بصمات إسرائيلية، ولكن هذه هي إسرائيل وطريقة تعاملها مع النظم وإدارتها للصراعات والأزمات، فهي قد تعطيك بيد وتطعنك بيد أخرى، وتتحالف معك وضدك في ذات الوقت، وهكذا!

 

في المقابل كان صدام حسين عدوا مبينا لأمريكا وإسرائيل، وفي عهده كان الروس بزعامة غورباتشوف ثم يلتسين في حالة تبعية مقززة للأمريكان. وبخصوص إسرائيل فإنه في الوقت الذي يبني فيه السيسي جدارا على حدود قطاع غزة، فإن صدام حسين استمر حتى سقط نظامه بدعم عوائل الشهداء الفلسطينيين، ودفع لهم ولأصحاب البيوت المهدومة في مخيم جنين مئات الملايين -رغم الحصار- من الدولارات، وظل يردد أن فلسطين عربية من النهر إلى البحر. وبناء على هذه المعطيات فإن أثر أزمة سد النهضة أقل بكثير من أثر الحصار الدولي (والعربي) على العراق، ومع ذلك استمر نظام صدام ولم يسقط إلا باحتلال مباشر. لذا فإن سد النهضة سيضر بالمصري المسكين فقط، دون أن يتأثر النظام ورجاله وعائلاتهم، اللهم إلا في جوانب إعلامية غاضبة أو ساخرة اعتاد عليها النظام منذ انقلاب صيف 2013.

 

سد النهضة كارثة حقيقية

منذ نعومة أظفارنا تعلمنا في المدارس الابتدائية وما بعدها مقولة (لولا النيل لكانت مصر صحراء قاحلة) و(مصر هبة النيل).. وعبث وفساد الإنسان الذي أخل بالتوازن البيئي بأمر من الشيطان الذي تعهد بأن يغير الناس خلق الله؛ بفعل التقدم التقني الممزوج بالجشع والكبر والانحراف عن الصراط المستقيم، أضر بحياة الإنسان على هذا الكوكب، ومعه سائر المخلوقات الأخرى، وسد النهضة لا يخرج عن هذا الوصف بشكله الحالي.

فالنيل له منبع وله مجرى ويسير بتقدير إلهي إلى المصب، وعلى ضفافه عاشت أجيال متلاحقة من شعوب وقبائل مختلفة، فشربت من مياهه، وأكلت من سمكه، وسقت زروعها منه، وسافرت مراكبها عبره في رحلات التجارة وغيرها.. وهذا السد سيضر كثيرا بهؤلاء الناس، خاصة في مصر والتي يسير النيل في أرضها أكثر من 1500 كم حتى مصبه.. هو ترتيب رباني، إنها صنعة الله الذي أتقن كل شيء، فيأتي الإنسان ليعبث بهذا الإتقان فيظلم نفسه.. ومصر تعتمد على مياه النيل في الشرب والريّ بنسبة 90%.. وحاجة مصر حسب بعض التقارير 40 مليار مترا مكعبا في السنة من مياه النيل.

 

النظام العسكري وأمريكا وإسرائيل

لا شك أن سياسات النظام العسكري في مصر خاصة في عهد مبارك، أضعفت دور مصر في القارة الأفريقية، وانشغل مبارك ونظامه بمناكفة أحزاب وحركات في الداخل والخارج عن قضايا الأمن القومي، ولو أنهم استثمروا جهودهم في تعزيز العلاقات والعمل المكثف في ملفات أفريقيا ولا سيما دول حوض النيل وعلى رأسها أثيوبيا، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد الكارثي. وجاء السيسي ليكمل حلقة الأخطار، وازدادت في عهده حالة اضمحلال الدور المصري الريادي عربيا وأفريقيا وإسلاميا، رغم كل البهلوانيات الإعلامية، ومارس إدارة غير حصيفة للمفاوضات مع أثيوبيا، أما تلويحه باستخدام القوة العسكرية، فهو أمر بعيد عن المنطق تماما، بل حتى محمد حسنين هيكل كاتب وفيلسوف النظام العسكري، رفض التعاطي مع أثيوبيا بمنطق القوة العسكرية مطلقا، لأنه أمر ليس مجديا. وثمة مخاوف وقلق يزداد بأن أمريكا التي تظهر مؤيدة –حسب وصف أثيوبيا- لمصر في المفاوضات حول السد، تريد التسويق لحل هذه الأزمة يتضمن إعطاء إسرائيل نصيبا من مياه النيل، وبالطبع سيخرج حملة المباخر ومهرجو إعلام السيسي كعادتهم للتصفيق له باعتباره (حمى حق مصر وأمنها القومي والمائي وحفظ لها حصتها من النيل وزيادة!).. وهذا سيناريو بل كابوس نرجو الله ألا نراه!

 

هل سيتأثر النظام ورجاله؟!

ولكن النظام ورجاله يعيشون في الفلل والقصور، وعاصمتهم الإدارية، وستأتيهم المياه النقية، للشرب والاستحمام، وريّ الحدائق، ولن يتضرر سوى الفلاح المصري، والمواطن الذي سيعاني فقرا فوق فقره، وقد تحل كارثة بيئية في أجزاء من مصر، أما الحلول التي قد يتفتق عنها عقل النظام(في حال لم تنجح أمريكا في حل يوصل ماء النيل لإسرائيل) فالمستفيد أيضا هو النظام وخزائنه، فمثلا لو دشن النظام مشاريع لتحلية مياه البحر المتوسط أو الأحمر، فإن المشاريع كالعادة ستكون للجيش من ألفها إلى يائها، وليس مستبعدا مثلا أن يبرم النظام صفقة مع روسيا لشراء الثلوج أو المياه عبر البواخر الضخمة، لبيعها للناس، والمستفيد أيضا واضح.. تذكروا مثال العراق أعلاه!

 

تعاون المعارضة مع النظام

هناك من يتحدث بطريقة طوباوية ويقول بأن على المعارضة أن تنسى خلافاتها مع النظام العسكري في مصر، لأن الأمر يتعلق بمسألة أمن قومي، ومصلحة وطنية عليا، وأن النيل كان منذ آلاف السنين وتعاقب على حكم مصر والنيل يجري في أرضها ملوك وفراعنة وهكسوس ورومان وعرب ومماليك وأتراك، والنيل سيبقى حتى يشاء الله، والنظم تتبدل وتتغير.

 

ولكن هل سأل هؤلاء أنفسهم قبل طرحهم البعيد عن الواقع تماما: هل الاستبداد يؤمن بالشورى مع من يؤيده ويتساوق معه أصلا، حتى يتشاور (دعك من التعاون هنا) مع من يعارضه؟ لا؛ فالنظام يدير كل الأمور وفق سياسة (ما أريكم إلا ما أرى) وحتى لو فرضنا أن المعارضة بكل أطيافها أعلنت رغبتها في التعاون معه والتشاور حول ملف سد النهضة، فإن النظام سيتعالى ويرفض وسيستمر برميها بالتهم المعروفة، أو يعلن عن شروط تعجيزية لتغليف رفضه.. كما أن المعارضة وسائر الحياة السياسية في مصر تم تجريفها بطريقة غير مسبوقة. ومن جهة أخرى هل النظام العسكري يملك قراره في حقيقة الأمر، حتى يشاور ويتعاون مع أهل الخبرة والمعارضين من أجل الخروج بسلام من هذه الأزمة؟ سؤال برسم الإجابة.

 

العمل الضروري

الأمر الأكثر إلحاحا هنا وعلى كل أحرار مصر والعرب والمسلمين العمل من أجله هو خلق حالة وعي شعبي شامل، وكسر التعمية الإعلامية وتضليلات النظام العسكري، تتلخص برفض المس بحق مصر في مياه النيل، ورفض أي حل ينتقص من حاجاتها المتزايدة، أو أي تسوية أو صفقة تعطي إسرائيل نقطة واحدة من مياهه، فهذا واجب الوقت، ولو تكوّن هذا الوعي فهو قمين بتغيير المعادلة جذريا.

 

ما شأننا نحن بمصر ونيلها؟

حقيقة أنزعج حدّ الحزن، من تذمر بعض الإخوة المصريين، من تناولنا أوضاع مصر، بدعاوى حدود تعلمنا -كما تعلم المصري يوما- أنها رسمت بقلم الغزاة، وفي كل الأحوال فإن قدر مصر أن تكون فعالياتها ودورها أكبر وأوسع من الجغرافية البالغة مليون كم2 وقد جاء الناس الجوعى إلى يوسف الصديق حفيظ خزائنها يطلبون الغوث قبل قرون طويلة، واستمر دور مصر المفروض لأكثر من اعتبار منها موقعها الجيوسياسي، والإرث الثقافي والحضاري والدور الذي لعبته مؤسساتها المختلفة عبر تاريخ طويل، والأمثلة لا يسعني ذكر ولو جزء صغير منها هنا.. فمصر ليست مثل تلك الدول التي لولا الإنترنت والفضائيات لما سمع بها إلا قلة من الناس، وهي ليست تلك الجزيرة النائية التي يعيش فيها نفر من الناس حياة عادية؛ فقدر مصر هو الحركة الدائمة في فضائها وما هو أبعد منه، لا الانكفاء على جغرافية محدودة.. وأحمق من يتحدى القدر أو يريد تجاهله بالقول (ما شأنك فأنت لست مصريا؟!).

 

وصحة وحيوية مصر تنعكس إيجابيا على محيطها، ومرض مصر، ومعاناتها تنعكس سلبا علينا جميعا، وقد شهدنا ذلك بالتجربة العملية والفعلية.. صحيح أنني وأنا أعيش في فلسطين وذاك يعيش في الشام أو العراق أو بلاد المغرب لن نعاني مباشرة من فقر مصر المائي (لا قدر الله وقوعه) ولكن كل ضعف في أرض الكنانة سيضعف الجميع.. نسأل الله أن يرد مصر إلى دورها الحاسم في حماية الأمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.