شعار قسم مدونات

أيهما أهم.. ذميّ قريب أم مسلم بعيد؟!

blogs مجتمع

في مقالي المنشور هنا في 13 شباط/فبراير الماضي الموسوم بـ(العلماني العربي "المسلم" ليس وصيّا على المسيحيين) تناولت موضوع استغلال علمانيين عرب مسلمين ورقة وضع المسيحيين في المجتمعات العربية المسلمة، والطرح السوريالي الذي يتهم الإسلاميين بأنهم يحبون أو يفضلون مسلما أعجميا من تركيا أو باكستان أو آسيا الوسطى أو غيرها على عربي مسيحي يعيش معهم ويقاسمهم هموم الوطن ويشاركهم مصيره، لدرجة أنهم يفترضون أنه لو شنّ مسلمون حربا على هؤلاء الشركاء فسيقف الإسلاميون العرب مع المسلمين الأعاجم، ومع أنني أرى أن ما كتبته كافيا للرد على هذه الترهات ولكن هناك من يعيد طرح الموضوع من زاويتين:-

 

1) لقد تعمدت في مقالتك تجاهل ممارسات عنيفة استئصالية قامت بها حركات ترفع شعار الإسلام والجهاد، والتي استهدفت عموم المسيحيين وخطفت راهبات.

2) في مقالتك شرقت وغربت وابتعدت عن (جوهر) الطرح من حيث من هو الأقرب في الحب والمودة لك: مسلم أعجمي بعيد أم مسيحي عربي يساكنك الأرض ويشترك معك في عموم الحياة، وهل ستقف مع ابن وطنك ضد الأعجمي لو شنّ عليه حربا أم لا؟!

 

الحركات التكفيرية والمسيحيين

كان لا بد من العودة إلى هذا الملف من النقطتين أعلاه، آملا أن يقفل بعد هذه المقالة؛ وأنا أعلم يقينا أن تصرفات ومسلكيات بعض المجموعات التي انتحلت الجهاد منحت هؤلاء ذخيرة فكرية وملأت جعبتهم بالأسئلة الممجوجة والتهم الجاهزة والأحكام الجائرة؛ ولكن ينسى العلمانيون أن هذه الحركات والمجموعات ترمي من يخالفها من المسلمين بالكفر والردة، وتدعوهم إلى التوبة، وإذا استعرضنا قوائم ضحاياها فسنجد فيها كثيرا من العلماء والشيوخ والدعاة، وقليلا من القساوسة والرهبان وغيرهم؛ فلماذا يصر العلماني العربي المسلم أن يحاكمني أنا بناء على أفعال من يراني خارج الملة أصلا؟ أي سماجة هذه؟

 

من المؤكد أن المسيحي العربي -عموما- لا يتناول علاقة ابن وطنه المسلم بأشقائه المسلمين في الدول الأخرى غير العربية، بل له مطالب وحقوق وعليه واجبات؛ وهو قد يناضل من أجل ما يراه حقا له في مجتمع مسلم يحكمه علمانيون

ومن جهة أخرى فإن الحكم يأتي من منطلقين؛ الأول: هو نصوص الدين الثابتة من الكتاب والسنة والتي كانت ترويسة مقالي في الشهر المنصرم منها (سورة الممتحنة الآية 8) وهذه النصوص هي التي يفترض بأي منصف العودة إليها لمعرفة حكم الإسلام في التعامل مع أهل الديانات الأخرى ومنهم المسيحيين بطبيعة الحال.

 

والثاني: هو الممارسة العامة لغالبية المسلمين قديما وحديثا، والتي لم تحمل في طياتها انتقاما ولا استئصالا؛ بل غلب عليها البرّ والقسط التزاما بالأمر الرباني، الذي نزل من فوق سبع سماوات سابقا كل مواثيق الأمم والهيئات الدولية؛ ووجود مسيحيين ويهود في مجتمعات كان المسلمون فيها أهل قوة ومنعة، ويمكنهم التصرف وفقما يريدون دون حسيب أو رقيب، دليل على أن السمت العام للمسلمين لم يكن عدائيا ضد هؤلاء.

 

بل حتى من هم ليسوا من سكان البلاد قديما، فقد تم التعامل معهم بتسامح كبير؛ فمثلا الفرنجة هم غزاة لم يسلم من شرهم وبطشهم مسيحيو المشرق الذين سكنوا هذه البلاد قرونا طويلة، فجاء هؤلاء من أوروبا وأقاموا في البلاد بقوة السيف، ومع ذلك لم يعمد صلاح الدين إلى طردهم وكان بمُكنته فعل ذلك، ولن يلام لو فعلها لأسباب واضحة. ولكن في المقابل رأينا بعد حوالي 300 عام من تسامح صلاح الدين محاكم التفتيش في الأندلس التي أشرف عليها رهبان كاثوليك، فيما لا يذكر التاريخ شيوخا وعلماء مسلمين من أي مذهب نفذوا أعمالا عنيفة ضد مدنيين مسيحيين؛ مع أن الرهبانية تقتضي ترك هذه الأمور والانزواء والبعد عن صغائر المشاحنات.

 

أما ما حدث لليهود في المدينة المنورة وخيبر فقد كان مرده أفعال هؤلاء وخيانتهم للمواثيق وتفضيلهم عبدة الأصنام والأوثان على المسلمين، فماذا ينتظر أي منصف أن يفعل مسلمون كادت مدينتهم تخترق من حيث كان يجب أن يقوم يهود بحمايتها وتأمينها لأنها أيضا مدينتهم؟! وخاتمة موضوع الحركات التكفيرية هي أنه توجد حالات وقرائن على اختراقها من أجهزة مخابرات الاستبداد وغيرها، لتوجيهها أو جعلها واجهة للقيام بأعمال بشعبة لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية…ولكن يغمض العلماني العربي المسلم عينه عن هذه الحقيقة.. لماذا؟!

 

المسلم الأعجمي والمسيحي العربي

ومن المؤكد أن المسيحي العربي -عموما- لا يتناول علاقة ابن وطنه المسلم بأشقائه المسلمين في الدول الأخرى غير العربية، بل له مطالب وحقوق وعليه واجبات؛ وهو قد يناضل من أجل ما يراه حقا له في مجتمع مسلم يحكمه -أكرر للضرورة- علمانيون بعيدا عن التفكير الذي يسكن عقول متثاقفين علمانيين، والذي يتساءل عن مشاعر وعواطف المسلمين تجاه بعضهم؛ علما بأن المسلم مأمور بحب المسلم ونصرته وتوليه سواء أكان عربيا أو غير عربي. ولم نسمع مسيحيين عربا من أهل الرأي أو الدين يعيبون على مسلم من أبناء وطنهم محبة أو تضامنا مع مسلمين غير عرب.. فمن فوّض العلماني والليبرالي وعينه ناطقا بلسان القوم؟!

 

أما كلامهم عن الحب والمشاعر ومن له مكانة أكبر في القلب، فهو في غاية التهافت؛ ذلك أنه في مجتمعاتنا تجد أخا يقاطع أخاه، وأب علاقته ليست حسنة بأولاده، وأزواج يقع بينهم خصومة وطلاق، ونحن نتحدث هنا في إطار الأسرة الصغيرة؛ فالحب والبغض لا يتقرر عند السواد الأعظم من الناس انطلاقا من الانتماء الديني المحض؛ هذا مع كون الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى الوالدين وبصلة الرحم. وكم من جيران مسلمين بينهم خصومات وشجارات؟ وكم من عوائل مسلمة بينها ما صنع الحداد؟ ولكن العلاقة بين المسلم والمسيحي قد تكون جيدة أو غير ذلك، وهذا في غالب الأحيان والظروف لا علاقة له بأخذ موقف بناء على الانتماء الديني.

 

فالعلاقات الاجتماعية ومخرجاتها والشعور بالحب والبغض بين الناس تحكمها عوامل شتى؛ هذا مع حرص المسلم الحق على معاملة أهل الكتاب بالحسنى ونلحظ تسميتهم بأهل الكتاب كنوع من التكريم بل أباح الإسلام زواج المسلم من الكتابية؛ أي أن تكون زوجة المسلم وأم أولاده من غير دينه وملّته، فهل لأطروحات العلمانيين معنى؟ لا، ولكنهم هنا يثيرون مسألة حرمة زواج المسلمة من الكتابي بالنص الديني-في واقع الحياة تحدث مثل هذه الزيجات- ومع أن هذا ليس موضوع بحثنا؛ ولكن الأمر منوط بحكم شرعي قاطع؛ فهل على المسلم مخالفة أحكام دينه وأن يُحل مكانها آراء بشرية مستوردة، تتغير كل زمن كي يرضى عنه العلمانيون المستلبون فكريا وثقافيا؟!

 

وأما تضامن المسلم العربي مع شقيقه المسلم غير العربي؛ فهذا شيء طبيعي، ولا يعيبه، كما أنه متبادل؛ فمثلا رأينا مظاهرات وفعاليات في تركيا وإيران وماليزيا وغيرها للتضامن مع فلسطين ورفض الاعتداءات على المسجد الأقصى.. بينما رأينا طيفا من أبناء جلدتنا يبرر قمع السلطات الصينية لمسلمي الإيغور في تركستان الشرقية؛ وكأن هؤلاء العلمانيين تحولوا إلى ناطق أمني وإعلامي باسم حكومة الحزب الشيوعي الصيني، وزادوا فوق ذلك لوما غاضبا وتعييبا على أي مسلم يتعاطف مع هؤلاء المظلومين، علما بأن رسالة الإسلام هي الوقوف مع المظلوم ونصرته أيا كان معتقده.

 

ولهذا أقول وأنا مسلم عربي: لو أن الإيغور من الديانة المسيحية وجرى لهم ما يجري لرفضت هذا بقلبي ولساني، وأي مسلم مقتدر وجب عليه مساعدتهم، وأي مسيحي من الإيغور (بناء على الفرضية) لو استطاع أن يفر بدينه لوجب على المسلمين تأمينه وإيواءه وما حرموه من ارتياد كنيسته بمنتهى الحرية.. هكذا تعلمنا من الإسلام ونحن نقرأ سورة الكهف نجد أن (ذي القرنين) لما مكن الله له في الأرض وقف مع قوم لا يظهر أنهم من أهل الإيمان الحق ضد فساد يأجوج ومأجوج وساعدهم وحصّن لهم وطنهم دون أن يضع عليهم شروطا لأن رسالته في الأرض بأمر الله فيها ما يأمر بنصرة المظلوم ضد الظالم.. وعجبت من علماني أو يساري من المسلمين يقف مع الظلم الشيوعي الصيني ضد الإيغور، وعجبت أكثر من رفضه مجرد تعاطفي ودعائي لهم.. إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

 

وأيضا فإنني أنا المسلم أصلي مع مسلم غير عربي في مسجد ما، خاصة في الحرمين (وفي الأقصى بعد تحريره إن شاء الله) فهل سأصلي معه وأقول له: أنا أفضل عليك ابن وطني المخالف لي في الدين، أي استحضار لهذه المسألة في هذا الموقف؟ وفي نفس الوقت المسلمون يصومون رمضان مع بعضهم ويجتمع عدد منهم في الحج ومأمورون بنصرة بعضهم، لأنهم أمة واحدة، وهذا المصطلح يستفز علمانيين وضعوا أنفسهم في صندوق صنعه غربيون وهم يظنون أنهم أهل العروبة والانتماء لها؛ مع أن العربي حتى في جاهليته الأولى خير منهم لأنه كان يجير المستجير، ويذود عن حمى من يستنصره أيا كان.. هل يتناقض حبي لمسلم غير عربي مع حبي لمسيحي عربي؟ أهي مسألة مطروحة وفق مفاضلة هذه أو تلك؟ أي مدرسة وأي منطق يخرج لنا هذا الجنون؟!

 

الحرب الوهمية

وأما الشق الغريب السفيه من أطروحتهم: مع من ستقف لو استهدف إخوانك المسيحيين من إخوانك المسلمين من غير العرب؟! فلعمري إنه حمق دونه كل حمق؛ فأية مجموعة من المسلمين غير العرب على أجندتها قديما وحديثا ومستقبلا استئصال أو محاربة إخوة الوطن من الأقليات، ولماذا ولأي سبب وكيف سيحصل هذا؟

 

لماذا يريد هؤلاء إشغالنا بفرضيات وهمية؛ والأهم أنها لا تشغل بتاتا بال المسيحي العربي أصلا؟ ولو أن مسيحيا عربيا طرح مثل هذا السؤال -مع غرابته واستهجانه- لكان الأمر مهضوما أكثر من تردد السؤال على ألسنة مسلمين يقولون إنهم من العلمانيين أو (التنويريين) أو من (التيار المدني).. فهذا يشبه أسئلة الخيال الجامحة قديما وحديثا، ولا داعي للغرق في وهم وخرافات وهذيان لا محل له في عالم الواقع الذي نرى فيه أن مشكلة المسلم والمسيحي الحقيقة هي في تسلط الغرب، وأدواته في بلادنا من القومجيين والعلمانجيين والعسكر الذين يستبدون بالأمر أولا وثانيا وعاشرا.. الله غالب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.