شعار قسم مدونات

المقاطعة ونبض والاحتجاج

 

في أواخر العام المنصرم قامت بعض المؤسسات الفرنسية بإعادة نشر رسومات مسيئة لرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، وحصلت تداعيات كبيرة جراء هذا الأمر بحيث ظهر للمسلمين في شتى بقاع الأرض أن الدولة الفرنسية بنفسها تتبنى هذا الخط، فظهرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب المسلمين بمقاطعة المنتجات الفرنسية، واستجاب لهذه الدعوات الكثير من الفئات كالتجار ورجال الأعمال فضلا عن الأفراد.

وبعد الاستجابة الواسعة والتفاعل الكبير من عموم المسلمين، قام الإعلام التابع للأنظمة الدكتاتورية في بلادنا بإثارة عدد من الشبهات والإشكالات رغبة منهم في الحد من آثار هذه المقاطعة؛ فأردت أن أفند هذه الشبهات وأجيب عن بعض التساؤلات مستعينا بالله عز وجل، مدللا على مشروعيتها من الكتاب والسنة، وموضحا إيجابياتها والفوائد التي تجنيها أمتنا من ورائها.

 

إشارة مهمة لمكانة نبينا عليه الصلاة والسلام

عند مطالعة القرآن الكريم والتشريعات الإسلامية تظهر بوضوح مكانة النبي عليه الصلاة والسلام عند الله عز وجل؛ بل وتفضيله على الرسل والأنبياء السابقين، فلا يصح دخول أحد في الإسلام حتى يشهد بأن محمدا رسول الله قارنا ذلك بشهادته أن لا إله إلا الله، والأذان الذي يتردد على الأسماع كل يوم 5 مرات يحمل هذه الشهادة، وأما الإشارة لمدحه وتعظيمه وتقديسه عليه الصلاة والسلام؛ فهو كثير في نصوص الوحي بحيث لا تخطئه عين، كما يصعب حصره في مثل هذا المقال.

والذي يلزمنا ذكره هنا هو شيء مما يتعلق بوجوب نصرته عليه السلام والانتفاض لمقامه وجنابه الشريف؛ من مثل قوله تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) وقوله جل وعلا (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ).

وبالنسبة لمكانته عند الأنبياء السابقين فيكفي في ذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

وعن مكانته عند أصحابه فحدث ولا حرج، ولك أن تقرأ فقط قول عروة بن مسعود الثقفي عندما رجع لقومه يوم الحديبية:

وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ،

وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّد مُحَمَّدا.

كما برزت مكانته عند أهل الكتب السابقة في قول الراهب بحيرى:

هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

بل ظهرت مكانته صلى الله عليه وسلم أيضا عند أعدائه كما في كلام أبي سفيان لهرقل حين كان أبو سفيان آنذاك من قادة الحروب ضده عليه الصلاة والسلام.

وبالطبع أثبتت هذه المقاطعة أن مكانة النبي عليه الصلاة والسلام ما زالت حيّة نابضة في نفوس عامة أبناء الأمة الإسلامية، حيث لم يكن يتوقع أغلبنا أن تكون الاستجابة بهذا الحجم، وذلك بسبب ما تفعله الأنظمة المعادية للإسلام من عملية تجريف وتحريف ممنهج لثوابت وأصول الدين، كذلك وسائل الإعلام التي تعمل على تغييب الشعوب وإخراجها من دائرة أي صراع على المستوى الداخلي أو الخارجي، سواء كان المسلمون طرفا فيه أو كانت قضية تتعلق بالإسلام سببا له.

وهذا يدل على فشل هذه الأنظمة في صراعها مع هويتها وثقافتها.

ومن هذا المنبر أود توجيه التحية لعموم الأمة الإسلامية، التي لم تدخل امتحانا بين الإسلام وخصومه؛ إلا انحازت لدينها وعقيدتها. وأثبتت أن انتماءها لهذا الدين قوي ومتين، وليس مجرد نسبة اسمية كما يدعي بعض المغرضين أو الجاهلين.

 

الفوائد والمكتسبات التي ظهرت من وراء هذه المقاطعة

1- قد يكون أهمها -ولذلك أبدأ به- تجديد العهد مع نبينا عليه الصلاة والسلام، واستنفار وازع المحبة في قلب كل مؤمن بهذا الرسول الكريم، وهذا بالطبع لن يقف عند هذا الحد؛ بل لعله يشجع عاصيا على التوبة، أو مقصرا على الاستدراك، أو جاهلا على التعلم.. وهكذا.

2- ظهور إمكانية اجتماع المسلمين على فكرة مؤثرة في الشأن العام، وأن اجتماعهم هذا من شأنه أن يؤتي أُكُلَه ويجني المسلمون ثمرته.

3- مسألة روح الوحدة لهذه الأمة، وظهور معنى قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، وقوله (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ)، وقوله (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، وقوله (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"، وهذا من أعظم المعاني التي تحتاج منا وقفات ووقفات؛ لكن الذي يهمنا منه الآن أن الأعداء كانوا قد اطمأنوا لعدم إمكانية وحدة هذه الأمة واتفاقها على شيء، فإذا بهم يتفقون على فكرة المقاطعة كبرهان ساطع على اتفاقهم على محبة النبي عليه الصلاة والسلام.

4- ساهمت عملية المقاطعة في كثرة التساؤلات عن هذا النبي العظيم؛ مما دفع علماء المسلمين، وحتى الجماهير لإبراز الكثير من جوانب سيرته المطهرة عليه الصلاة والسلام، وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف من حياته، وأحاديثه المليئة بالعظمة، وترجمتها للغات كثيرة؛ كل ذلك تأكيد وتوضيح لمعنى قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

5- عملية المقاطعة لم تكن عملا سريا ولا خافتا؛ بل كانت أمرا بارزا وظاهرا، مما يجعل نفعَه متعديا بحيث يراه أبناؤنا، وهذا يزرع فيهم معاني لا يبلغها مجرد التعليم النظري، كما يصل إلى المسلمين في الغرب في وقت يتعرضون فيه لتضييقات على كل المستويات، وهذا يثبتهم ويشجعهم على التمسك أكثر وأكثر بتعاليم الإسلام والتشبه بالنبي عليه الصلاة والسلام.

6- تحذير لكل من تسول له نفسه (دولا أو جماعات أو أفرادا) من سلوك هذا السبيل، والتأكيد أن شرف وعِرض ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلمين في شتى بقاع الأرض خط أحمر لا يجوز المساس به أو حتى الاقتراب منه.

 

لفتة حول إمكانية نجاح حملة المقاطعة، وهل يشترط رؤية النتائج أم نستمر حتى لو لم تتأثر فرنسا؟

نحن بالطبع مكلفون ببذل الأسباب قدر الاستطاعة، قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، في الوقت ذاته الذي نؤمن فيه بمصداق قوله تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، فالمسلمون يحاولون ويبذلون ما يقدرون عليه، وينتظرون النصر والظفر من الله عز وجل؛ بل حتى في أعظم العبادات بعد التوحيد (الصلاة) نقرأ دائما (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

فأولا نحن نُثَبِّت المبدأ، وثانيا فإن المؤشرات كثيرة بفضل الله عز وجل على نجاح هذه الحملة، ومن أبرزها تلك التصريحات المتعددة حول الضرر الذي لحق بالاقتصاد الفرنسي بسببها، كما لا يفوتنا هنا أن نذكر بتراجع الدانمارك التي بدأت هذه العملية المشينة في 2006، ومن بعدها النرويج؛ بل نذكر المشككين في ذلك بإسلام صانع الفيلم الهولندي، والذي يشارك المسلمين حاليا هذه الحملة العظيمة.

فضلا عن ردود الأفعال العالمية والإقليمية والمحلية، التي تشير إلى نجاح هذه الحملة في تحقيق العديد من أهدافها.

 

النية التي يعقدها المسلم لمقاطعة المنتجات الفرنسية

هناك العديد من النوايا، منها كل ما ذكرناه في الجواب عن سؤال فوائد هذه المقاطعة، ونضيف على سبيل المثال.

1-  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد قال سبحانه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وقال صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، فمن شارك في الحملة دعائيا وعمليا، فقد غير بلسانه وقلبه، ومن اكتفى بالمقاطعة فقط فقد غير بقلبه.

2-  يمكن المشاركة بنية المساهمة في تجميع المسلمين وعدم تفريقهم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)؛ أي حتى لو لم يكن مقتنعا بجدوى المقاطعة، فيمكنه المشاركة بهذه النية، ومن أجل تحقيق هذا الهدف العظيم، "فالخلاف شر" كما قال ابن مسعود رضي الله عنه.

3-  الأجر على قدر المشقة، فهناك من المسلمين من يشق عليه مقاطعة بعض المنتجات الفرنسية لأسباب مختلفة، فهؤلاء يؤجرون على قدر شعورهم بالمشقة، سواء بسبب غلو ثمن البديل أو بعد المكان الذي يشتريه منه أو قلة الجودة.. إلى غير ذلك.

4-  وقد تؤدي المقاطعة لضرر يلحق بالمقاطع نفسه أو أحد من أقاربه أو أحبابه؛ كما رأينا بعض أصحاب المحلات يحملون البضائع الفرنسية، ويتخلصون منها، وهذا بلا شك يمنحه أجرا أعظم من غيره ممن لا يلحق بهم أو بدوائرهم مثل هذا الضرر.

 

الأدلة التفصيلية على مشروعية المقاطعة الاقتصادية[1]

1 – قول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ).

وجه الدلالة في أن يوسف عليه السلام جعل منع الطعام عن إخوته وسيلة لجلب أخيه إليه، وهو تلويح واضح بسلاح المقاطعة الاقتصادية، واستخدامه وسيلة من وسائل الضغط، هذا وإن كان من شرع من قبلنا إلا أنه ليس في شرعنا ما يخالفه؛ بل على العكس هناك ما يؤيده صراحة كما في حديث ثمامة بن أثال الآتي، وبناء على ما سبق، فإن المقاطعة الاقتصادية وسيلة مشروعة للتوصل إلى الحق، أو دفع الظلم.

2– قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وجه الدلالة في أن الله تعالى أوجب على المؤمنين مجاهدة الكفار والمنافقين، إما وجوب عين أو كفاية، فإلحاق الضرر بهم عن طريق المقاطعة الاقتصادية مشروع من باب أولى.

3 – قال تعالى عن المؤمنين (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

وجه الدلالة في أن المقاطعة الاقتصادية نَيْلٌ ممن يعادون الله ودينه وإغاظة لهم، وما كان كذلك فهو محبوب إلى الله تعالى.

قال ابن القيم عند ذكره لبعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية "ومنها استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في جملة هداياه جملًا لأبي جهل في أنفه بُرَةُ من فضة، يغيظ بها المشركين.

4 – ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة "أن ثمامة بن أثال قيل له بعدما أسلم صبوت؟ قال لا؛ ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم".

وجه الدلالة في أن ما فعله ثمامة من تهديده للكفار بقطع الحنطة عنهم، صورة من صور المقاطعة الاقتصادية، ولو كان هذا الفعل غير مشروع لما أُقرّ عليه.

والله من وراء القصد

[1] انظر مشكورا كتاب: المقاطعة الاقتصادية-حقيقتها وحكمها. طبع دار ابن الجوزي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.