شعار قسم مدونات

تعقيدات الاندماج والانفصال في المجتمع العربي

رجل يجلس في العتمة ويتصفح هاتفه.. صورة معبرة عن الوحدة
أزمة الهوية مشكلة تتجلى في عدم قدرة الأفراد على تحديد من هم (بيكسلز)

يحكى في كتاب "كليلة ودمنة" أن غرابا شاهد حمامة تمشي بأناقة ورشاقة، فأعجبته مشيتها، وأراد أن يحاكيها. بدأ يحاول بكل جهد تقليدها، لكنه وجد نفسه مرة بعد أخرى عاجزا رغم إصراره وعزمه وسعيه لمحاكاة طريقتها.

وبعد أن باءت كل محاولاته بالفشل، علم الغراب أنه لن يفلح في أن يخطو خطى الحمامة، بالتالي قرر أن يعود إلى طريقته القديمة في المشي. ولكن هيهات، ففي سعيه للتغيير نسي مشيته، ويا خيبة الأمل ويا خيبة المسعى، بات صديقنا المغلوب عن أمره تائها بلا ذات. فلا هو بمشيته متجمل ولا بمشية الحمام متعلم.

وصار بعدها يجوب السماء بلا هوية محددة، لا كحمامة ولا كغراب، بل كمخلوق مضطرب يبحث عن هويته المفقودة في عالم من التقليد والتشابه. عالم من التكرار والمحاكاة يغيب فيه التميز والتفرد، ويطغى النمط الواحد. يبحث وسط الضياع عن وجود وأصل، هو من قرر الإفراط فيه طوعا لا إجبارا ولا إكراها.

الانفتاح على الآخر والرغبة في التجديد دون حدود ودون ضوابط ودون التشبث بالهوية والأصل، هو كارثة حقيقية تقود الفرد إلى الشعور بالاغتراب

بين التقليد والتجديد

لم أختر حكمة الغراب بطريقة اعتباطية، ولم أبدا الطرح بها إلا لأجل غاية محددة من قبل الكتابة، ولم أجد أبلغ ولا أوضح منها لموضوعنا اليوم.

بالتأكيد، هذه القصة توضح بشكل جلي تحديات الهوية التي يمكن أن يواجهها الفرد في المجتمع. ويمكن اعتبار الغراب رمزا للتقليد أو الاستلاب، حيث يحاول الفرد اعتماد سلوك الآخر بدافع الإعجاب أو الرغبة في التغيير.

بينما تمثل الحمامة الهوية الأصلية لصاحبها المتمسك بها والمتجمل في عين غيره بتمسكه وتباهيه بها، أما الشخصية التي يحاول الفرد العودة إليها بعد محاولة التقليد فهي الأصل الذي متى خنته خانك ومتى تخليت عنه تخلى عنك.

الأصل الذي تبدو به عالي المقام في سمو ورفعة وتحظى بكل الاحترام، ومن غيره -أي من دونه- أو بغيره -أي باعتماد سلوك مخالف له- تصبح حتما في أزمة ذاتية وشعور دائم بالضياع، وتصبح نظرتك لذاتك نظرة دونية.

إن الانفتاح على الآخر والرغبة في التجديد دون حدود ودون ضوابط ودون التشبث بالهوية والأصل، هو كارثة حقيقية تقود الفرد إلى الشعور بالاغتراب.

مثلما عجز الغراب عن محاكاة مشية الحمام، ولم يستطع العودة إلى مشيته الأصلية، يواجه العديد من الأفراد في العالم العربي صعوبة في الاحتفاظ بالهوية الثقافية الخاصة بهم، بسبب التأثيرات الثقافية الغربية والعولمة. يتمثل هذا في فقدان اللغة الأم والتقاليد والقيم التي تميز هويتهم، مما يؤهل إلى ما يسمى بالإرهاب الثقافي.

الانفتاح على الآخر مع التشبث بالجذور، ضرورة لا جدال فيها، إذ بها يكون التقدم والتطور ويتحقق التجديد.

يعاني كثيرون من هذا التقليد الأعمى، حيث يفقدون القدرة على التمييز بين الانفتاح على الآخر المختلف عني غاية تلاقح الحضارات، والسعي لتطوير الخلفيات الثقافية بطريقة بناءة، وبين مماثلة قيم تتنافى مع مكتسباتهم

سبب أزمة الهوية

مشهد الغراب الذي  يحاول تقليد مشية الحمام، هو تجسيد للانغماس الكامل في التقليد دون تفكير أو تقييم، وتمثيل للفرد الذي لا يعتز بما لديه، و لا يدرك قيمة ما يملك إلا بعد فقدانه، ولا يعلم أن اختلافه هو سر تفرده وتميزه.

دون تقدير لقدراتهم الفردية، يعتمد العديد من الأفراد في المجتمع العربي أنماط حياة لا تتماشى مع هويتهم الحقيقية، مما يؤدي إلى شعور بالتشتت الثقافي والاندماج المزيف في ظل القيم المتعارضة وتجزئة المبادئ.

فيعملون على محاكاة ما يرونه، وما يرغب الغرب وقوى العالم في غرسه فيهم، مما يعزز الذوبان في الآخر وفقدان الاتصال بالجذور، وتعزز نزعة الهروب من الواقع.

في العالم العربي، يعاني الكثيرون من هذا التقليد الأعمى، حيث يفقدون القدرة على التمييز بين الانفتاح على الآخر المختلف عني غاية تلاقح الحضارات، والسعي لتطوير الخلفيات الثقافية بطريقة بناءة، وبين مماثلة قيم تتنافى مع مكتسباتهم، مما يعيق عملية التطور والتقدم.

الهوية لا تمثل أزمة أو إشكالا لأنها مجرد مسألة فردية تتعلق بالانتماء الشخصي، بل هي تأثير عميق يتجاوز الفرد ليشمل المجتمع بأسره. ويمكن اعتبار الهوية قضية معقدة، تتأثر بعوامل متعددة مثل التاريخ، والثقافة، والدين، والسياسة، والاقتصاد

في عصر الهوية المتشتتة

أزمة الهوية هي مشكلة تتجلى في عدم قدرة الأفراد على تحديد من هم، ومن أين هم، وماذا يمثلون، وماذا يعتقدون، وما حدودهم، وما تأثيرهم في العالم المعاصر.

وتعتبر أزمة الهوية أحد أكثر المسائل التي تشغل الفكر العربي في العصر الحديث، وواحدة من أكبر المواضيع التي تحتاج للطرح والنقاش والبحث، حتى نوضح ما يبدو عصيا عن الفهم وما فيه التباس، وما قد يحصل فيه خلط أو سوء فهم.

الهوية تعني تقسيم المجتمع إلى مجموعات حسب معيار معين، الهوية تعني الانتماء، الانتماء الديني أو الجغرافي أو اللغوي أو السياسي أو العرقي أو المذهبي وما إلى ذلك.

الهوية لا تمثل أزمة أو إشكالا لأنها مجرد مسألة فردية تتعلق بالانتماء الشخصي، بل هي تأثير عميق يتجاوز الفرد ليشمل المجتمع بأسره. ويمكن اعتبار الهوية قضية معقدة، تتأثر بعوامل متعددة مثل التاريخ، والثقافة، والدين، والسياسة، والاقتصاد.

وهذه التجزئة تبدو أحيانا غير مقبولة أو تنقص للعدالة، أو لا تكون أحيانا أخرى حقيقية، لأنها لا تعكس الواقع فتفرق ما يجمع وتبعد ما يقرب وتعقد ما هو سهل وتتسبب في مشاكل نحن في غنى عنها. باختصار الهوية تجمع الأفراد وتفرق المجموعات، وهذا عيبها الجوهري الذي يولد اختلافات وتقسيمات ونزاعات.

التنوع الكبير قد يؤدي إلى تحديات في بناء الهوية الشخصية والجماعية. فبينما يرغب البعض في الحفاظ على تراثهم الثقافي والتمسك بعاداتهم وتقاليدهم، يجد آخرون صعوبة في التوازن بين ذلك، وبين رغبتهم في التواصل مع ثقافات أخرى والاندماج فيها

التنوع الثقافي العربي

التنوع الثقافي في المجتمعات العربية يعكس ثراء وتعقيد الهوية الثقافية في هذه المنطقة. فعلى الرغم من الوحدة اللغوية مع تعدد اللهجات، فإن الاختلافات الثقافية بين البلدان، وداخل كل بلد تبرز بشكل واضح. فهناك تفاوت كبير في العادات والتقاليد بين سكان المدن وأهل الريف، ولأهل الجنوب عادات تختلف عن أهل الشمال، ولأهل المدينة أفكار تختلف عن أهل الريف، ولا الشرق يشبه الغرب، ولا الغني يلبس لباس الفقير، ولا الفقير فيها يتزوج زواجا كالغني. وفي عاشوراء لا يحزن أهل السنة حزن أهل الشيعة، ولا أهل الشيعة يفرحون فرح أهل السنة.

وهذا التنوع الكبير قد يؤدي إلى تحديات في بناء الهوية الشخصية والجماعية. فبينما يرغب البعض في الحفاظ على تراثهم الثقافي والتمسك بعاداتهم وتقاليدهم، يجد آخرون صعوبة في التوازن بين ذلك، وبين رغبتهم في التواصل مع ثقافات أخرى والاندماج فيها.

مع هذا التحدي، يعتبر التنوع الثقافي في المجتمعات العربية مصدرا للثراء والإثراء، ويحتاج إلى فهم واحترام متبادلين بين أفراد المجتمع لتعزيز التواصل والتفاهم المتبادل.

يمكن فهم قصة الغراب والحمام كتجسيد للتفكك الاجتماعي في المجتمع العربي، حيث يجد الأفراد صعوبة في التوفيق بين القيم والمعتقدات الأصلية والتأثيرات الخارجية.

مثلما فقد الغراب مشيته الأصلية بسبب محاولته تقليد الحمام، يعاني العديد من الأفراد في العالم العربي من ضعف في تحديد هويتهم الشخصية بسبب الضغوطات الاجتماعية والثقافية وقوة التأثير الخارجي التي تتضاعف مع التكنولوجيا وتطورها السريع. فيصبح من الصعب عليهم التمييز بين ما هو أصيل وما هو مستورد، مما يؤثر سلبا على الشخصية والثقة بالنفس .

والكثرة لا تعني دائما الوفرة والعراقة والماضي الثري، ونحن لا ننكر أنها نعمة تعكس حضارة غنية بالأخذ والعطاء، ولكنها مع سوء الإدارة وفقدان القدرة في التحكم، باتت نقمة على أصحابها.

وهنا نتساءل: كيف يمكن تكوين هوية عربية واحدة مع الإيمان بأن ما يجمعنا يفوق ما يفرقنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.