شعار قسم مدونات

حكايا على القهوة!

هذا الصباح- مقاهي يافا الثقافية تعيد التراث الفلسطيني للمدينة
المقهى هو في شكله بناء تقدم فيه القهوة والمسليات لرواده ومن القهوة اسمه ولكنه في معناه مكان اجتماع الحكواتيين (الجزيرة)

هيمنت الحيرة علي ذات ضحى، فجمعت أمري على جعله يوما للاستجمام من نصب التفكير، ونكد الحيرة. وخرجت إلى المقهى أنتظر فرجا ينزل، فلقيني واحد من الناس كان بيننا عهد الجيرة سنين عددا، قبل أن ننتقل إلى بيتنا في حي آخر في طرف القرية. تحاني الرجل وجلس إلى جانبي يسألني عن والدي وسائر العائلة، وأنا أجيبه وأرد إليه الأسئلة وهو يجيب.

لقد بلغت الخمسين، وذهبت قواي مع ذهاب الشباب، وقصرت طاقتي عن القيام بأمرهم، وما بد من الاستعانة به، وقد قوي عوده، ووفر فيه النشاط.

والمقهى هو في شكله بناء تقدم فيه القهوة والمسليات لرواده، ومن القهوة اسمه، ولكنه في معناه مكان اجتماع الحكواتيين، الذين يأتون بكل بدع من القول لقتل الوقت ببعض الأنس، فإن لم يجدوا في الحياة جديدا يرقى؛ خلقوه وادعوه. وواحدهم كالوعاء يملأ قلبه بالقصص لكي يفرغها بين التكلم بما جمع من غرائب، واستقبال ما لدى غيره من الفرائد. ولم أكن حكواتيا، ولا كان في طبعي كثرة الكلام، ولا وجدت في نفسي لذلك طاقة، ولكنّني بين الحين والحين أرتاد المقاهي لأستأنس بحكايات الناس، وإن كان كثيرها غث، وإن كانوا لا يتورع أكثرهم عن الخوض فيما ليس لهم به علم.

قال الرجل: إن ولدي البِكر (مصطفى) قد أتم داره، وهيأها للسكن ولم يبق سوى الأثاث، والحمد لله. ولكنني أخبرته أنه لا زواج له حتّى تتزوج أخواته، وينهي أخوه الصغير دراسته. فقلت له: لعلك بهذا تظلمه، فقال: لقد بلغت الخمسين، وذهبت قواي مع ذهاب الشباب، وقصرت طاقتي عن القيام بأمرهم، وما بد من الاستعانة به، وقد قوي عوده، ووفر فيه النشاط. قلت: يبارك الله فيه وفيك، ويسبغ عليكم من رزقه ما يغنيكم.

جلست مضطرب الذهن، لا أعرف تفسيرا لما حدث، سوى أن الله لما رآني صدقت ابني القول أبى أن يخجلني، فبعث لي ما لم أحسبه، من حيث لم أحتسبه

فقال الرجل: إن الله قد وفقني إلى مغنم من اليقين لا يشوبه شك، وقد كنت في شبابي تباعا للهوى، وذهابا في مذاهب الغي، ثم في يوم من الأيام جاءني هذا الولد وقد احتمل اللحم، وأصبح جسيما يطاولني في الطول، فنظرت في شأنه، وكان لي محلان أكريهما لقاء مبلغ شهري اعتاش منه، إلى جانب عملي، فقلت له يوما: يا مصطفى، هذا المكان لك، فاتخذه بيتا، وكنّا في قلّة من المال، فقال لي الولد: وما عساي أفعل به، وقد علمت عوزنا؟ فركبني الهم من سؤاله، ولم أجد منه مخرجا، فقلت: ابدأ الترميم، والله يرزق!

قال الرجل: وأنا لا أصلي، ولكنني مؤمن بالله، وعرفت يومئذ أن من الأمور أمورا تعرف فيها النفس حقيقة وجوده، وتوليه شؤون عباده. وذات مساء جاءني رجل من خارج القرية لا أعرفه، فقال: أين أبو فلان؟ فقلت: أنا ضالتك، فأكمل: أنا صيدلاني، أبتغي اكتراء محلك هذا. قال الرجل: فأجبته: هو لك إن دفعت مقدما معتبرا، لقاء ثلاثة شهور على الأقل، فابتسم صاحبه وقال: انظرني ساعة، وذهب وعاد ومعه تسعون ألفا وقال: خذها، وسآتي بعد أسبوعين لأستلم المحل.

قال صاحبنا الحاكي: وجلست مضطرب الذهن، لا أعرف تفسيرا لما حدث، سوى أن الله لما رآني صدقت ابني القول أبى أن يخجلني، فبعث لي ما لم أحسبه، من حيث لم أحتسبه. وناديت ابني من فوري وقلت له: هاك يا مصطفى، ألم أقل لك إن الله هو الرزاق؟ ها هو قد ساق إلينا تسعين ألفا ضربة واحدة، ومزيد في الطريق، فاذهب بني فاجعلها كلها في ترميم دارك، والحمد لله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.