شعار قسم مدونات

رحلتي إلى دولة الجبل (2)

blogs - zawiti

طريق بلا نهاية:
بادلني السائق النظرات، وجهٌ مدور وجبينٌ عريض، القلق زاد من سمرة بشرته اسمراراً، يتحاور مع نفسه، ينظر يميناً ويساراً؛ أعلم أنه يعاتب نفسه في داخله، أعلم أنه يسأل نفسه ويعاتبها عن السبب الذي جلبهم إلى هنا، غيّر من نظراته نحوي، التفت إلى الوراء، أمعن النظر في القروي وبدأ يسأله عن الطريق بعد أن فقد كل أمل في العودة وأصبح أمام سراب مجهول في قلب الطبيعة، السراب الموصوف للصحاري أصبح هنا مثال أمام الجغرافية المجهولة أمام عينيه؛ بدأ يسأل القروي بينما بدأت أترجم لهما الحوار الدائر بينهما:

-هل كل الطريق هكذا؟

-ماذا في الطريق، هو طريق جيد، لكنك لست سائقاً جیداً! تقود السيارة وكأنك تسير على كرات من البيض، وتخشى عليها من أن تنكسر؛ أسرع فما هكذا يقودون الناس..

ضحكنا..

 

-عمي قل لي: هل مارادو بعيدة؟

-لا ابداً.. قريبة جداً.. أمامنا.. وراء هذه الجبال

نظرنا جميعاً باتجاه اشارة يده.. جبال تعلو جبال، أفقٌ بعيد وتوجهٌ إلى عنوان مجهول.

تحركت السيارة، تسلقت الجبل ببطء شديد..

 

لم تكن ثمة مشكلة بالنسبة لي، لا بد أن أكون طبيعياً، فأنا الذي جلبت الفريق إلى هنا، لكن في داخلي بدأ مهرجان الدعاء من أجل الوصول بسلام.. نرتفع ببطئ، تلة تلو الأخرى، سلسلة الجبال المتلاصقة أضفت على أرواحنا نفحات من الدوار، كأن كل جبل وليد الجبل الذي قبله؛ وادٍ يحتضن آخر، مياه تجري وعيون تراقب المكان بخوف شديد، في نهاية كل وادي طريق ترابي، يلتف حول الجبل لبداية تسلق جديدة، كثعبان رمادي عظيم يريد أن يصل إلى القمة ليبتلع الجبل بما فيه، إلا أن وعورة الجبل وخشونته وصلابة أحجاره، جعل من ذلك أمراً مستحيلاً.

 

رحلة الجبل وضوح البدايات وغموض النهايات

الدقائق تمضي، والسيارة تمضي، ولا زالت النهاية مجهولة، نصف ساعة انقضت ولازالت القمم تتجدد، كلما حسبنا إننا وصلنا يستقبلنا جبل جديد بقمته العالية وجبروته العظيم، حينها نعلم أننا لا زلنا في بداية الطريق، نواسي أنفسنا وندرك جوانب ما نقوم به، فهذه هي رحلات الجبال، بداية جديدة، ونهاية غامضة.

 

عالم آخر، لوحات مزخرفة، ألوان مطبوعة على جغرافية معقدة، يعجز أي رسام أن يزخرفها على أوراقه، خالق عظيم، صنع فأبدع، أرض طيبة، تضفي على الأرواح الراحة والطمأنينة من تأملها.

 

مشاهد غريبة وطرق عجيبة؛ وديان وسهول، جبال وتلال، ننطلق نحو القمة كطائرة نفاثة، تسابق الزمن، إلا أنها لا تستطيع أن تسابق قساوة الجغرافية المنحوتة على هذه الأرض. ننظر إلى الأسفل؛ ندرك مدى الأرتفاع الذي تسلقناه، نرى الوادي البعيد، إلا أننا لا نرى النهاية القريبة.

  

-يا عم بالله قل لنا أين مارادو؟

-قريبة.. وراء تلك الجبال..

-لكنها الآن أصبحت أبعد من قبل..

-نعم لتكن بعيدة! أنتم لستم رجال الجبل، لماذا جئتم إليه؟

 

صعودٌ ونزول، جبل ووادي، ارتفاع وانخفاض، راحة وخوف، تأمل وواقع، هذا حالنا في رحلة الجبل، مكان بلا عنوان، ودرب علينا مواجهته.

 

السائق؛ يداه لا تفارقان المقود، وقدمه لا يفارق الفرامل، كلما ضغط على الفرامل أنزلقت السيارة؛ كلما أزاح قدماه عنها كأنها حصان في بداية الترويض، سيارة حديثة في سباق الفورملة وَن، همه أن يوازن بين العين واليد والقدم، هذه الحالة، وهذا الجو، أبعدنا عن التأمل بجمال الطبيعة وغرس في نفسنا خوفٌ مؤقت لرحلة بدايتها مرسومة ونهايتها غامضة.

 

كل شيء مختلف عن الواقع، هواءٌ بارد في عز الصيف الحارق، طبيعة خضراء معاكسة لصفار الأراضي التي أعتادت عليها البيئة العراقية، سماءٌ زرقاء صافية بعيدة عن غبار الحياة وتلوثها الدائم. من نافذة السيارة المفتوحة؛ تتعاكس بشرتنا مع نفحات النسيم البارد، يعيد إلى أرواحنا حب الحياة، يجفف في أرواحنا الكسل والروتين ويزرع في نفوسنا النشاط والمثابرة، إلا أنه يتقاعس عن تجفيف العرق المتصبب من أجسادنا من هول الرحلة.

 

أشار لنا القروي المرافق لنا أن القمم الجنوبية هي حصون الاتحاد الوطني الكردستاني، أما القمم المقابلة الشمالية هي حصون العمال الكردستاني وهم الذين نبتغيهم في رحلتنا

الغموض يلف المكان، تارة صعود وأخرى هبوط، استقرت سكينة من الهدوء في نفوسنا بعدما وصلنا أسفل الوادي بجانب النهر، طريق سهل واضح إلا أنه لم يدم سوى عدة كيلومترات، بعدها أعادت الطبيعة إلينا قوتها وقساوتها، فأجبرتنا على التسلق من جديد.

 

زميلي الفلسطيني أراد أن يكسر أجواء الصمت داخل السيارة، بدأ بطرح أسئلة ترجمتها للقروي المرافق لنا..

 

-قل للرجل ماذا يفعلون في هذه المناطق الوعرة.. كيف يعيشون؟

-أنها مناطقنا، أريافنا، مزارعنا..

-لماذا لم تختاروا مناطق في أراض أسهل للعيش، تركتم كل هذه الأراضي الشاسعة، جئتم إلى هذه المناطق الوعرة؟

-في القديم سكن آبائنا هنا، كانو يهربون من مشاكل الحياة..

-كل حياتكم هروب؟

-هذا ما قدره الله لنا.. الحمد لله..

-لماذا لم تقمْ سلطتكم الكردية بتبليط هذه الطرق؟

-من تقصد؟

-البارزاني والطالباني..

-هل سمح لهم الأعداء بفعل ذلك؟

-ما علاقة الأعداء بالموضوع.. ألا تحكمون أنفسكم بأنفسكم الآن؟

-كيف لا علاقة لهم؟ ألا ترى الجيش التركي يقصف مرة ويجتاح أخرى، وكذلك الإيراني، قبلهم صدام حسين فعل ذلك وقام بعملياته (الأنفال والكيماوي)، لا زالت جرائمهم محفورة على صفحات التاريخ.

-لكن الآن لا أحد إلا أنتم..

-لا لسنا وحدنا هم أيضاً موجودون..

 

كأن زميلي الصحفي الفلسطيني أعجبه الحوار مع الرجل الكردي من أهالي قرية مارادو، الذي ركب معنا فأستمر معه بطرح الأسئلة ليستنطقه عسى أن يحصل على فكرة قد تفيده أكثر في معرفة الشعب الكردي وقضيته..

 

-سمعنا أن (PKK) يزعجونكم أنتم أهل هذه القرى..

-لا.. لماذا يزعجوننا؟

-سمعنا بذلك..

-ليست لنا مشكلة معهم..    

-كيف؟ ألا يأكلون من مزارعكم، ألا يجبرونكم على أخذ المواد الغذائية؟ 

-لا يأكلون إلا عندما نعطي لهم، أو يشترونه منّا، كذلك المواد الغذائية..

-هل يجتمعون بكم؟

-لا.. أحياناً يحلون ضيوفاً علينا نكلمهم ويكلموننا..

 

لا نزال نسير في الطريق الجبلي الذي بدا لنا بلا نهاية..

سير صعب وطريق غامض، تركيبة معقدة وجبال مغروسة في كنف الطبيعة، جغرافية غريبة وألوان عجيبة، طبقات صخرية مزخرفة، طغى عليها اللون الأحمر فتلاه الأسود وانتهى بالأبيض.

 

-هل أن القضية الكردية أخذت صعوبة حلها من صعوبة السیر فی هذه الطرق؟

-وتعقيدها من تعقيد جبالها المتلاصقة؟

-هل أخذت الحركة الكردية ديمومتها دون أن تخفت من ديمومة الجبال هذه؟

-هل بقاء هذه القضية من بقاء هذه الجبال؟

 

أمضينا ساعة وأكثر منها بشيء في سيرنا على هذا الطريق، كما قال القروي فإن سيارتنا وكأنها تتحرك على البَيض ويريد السائق تجنب كسرها تحت العجلات.

 

قمم جبلية تقابل قمم أخرى، تتحدى بعضها في علوها، أشار لنا القروي المرافق لنا أن القمم الجنوبية هي حصون الاتحاد الوطني الكردستاني، أما القمم المقابلة الشمالية هي حصون العمال الكردستاني وهم الذين نبتغيهم في رحلتنا.

 

مدرسة اللغات واللهجات

أوقفنا القروي المرافق لنا قبل وصولنا لأول نقطة لمسلحي العمال الكردستاني، غادر سيارتنا، نزل وذهب، تحركت السيارة، بعد مائة متر وقفت ثانية عند نقطة المسلحين، نزلنا بعد ترحيب وتفتيش دقيق لِما نحمل، قادونا إلى الداخل..

 

شباب في مقتبل العمر بين الخامس عشر والخامس والعشرين، في حركة ونشاط، منهم من جاء من سوريا، وآخر من إيران، بعضهم كانوا من كردستان العراق، الغالبية من تركيا، مَن قدم من سوريا يجيد اللغة العربية، ومِن إيران يجيد الفارسية، القادمون من تركيا يتحدثون التركية، لكنهم يتخاطبون فيما بينهم باللغة الكردية..

 

لا يعيق ذلك الإختلاف في اللهجات، حيث لكل منهم لهجته الخاصة، الحياة هنا لأكثر من عشر سنوات جعل كل واحد منهم يتكلم لهجة الآخر، كل منهم تعلم اللغة الإضافية التي يجيدها الطرف الآخر؛ اصبحوا يجيدون اللغات العربية والتركية والفارسية، إضافة إلى الكردية بمختلف لهجاتها، أصبحت الجبال هنا مدرسة لتعليم اللغات..

 

صور عبد الله أوجلان مرفوعة، أعلام الحزب المختلفة تُرفرف في أرجاء المكان، كُتبٌ عن تجارب الثورات في العالم مع كتب عبد الله اوجلان متوفرة هنا..

 

تحدثنا لهم عن مهمتنا، ابلغوا من هم أرفع منهم مسؤولية بواسطة جهاز اللاسلكي، سمحوا لنا بأن نتقدم أكثر، رافقنا مسلح منهم في سيارتنا وتقدمنا.

 

-هناك بيان عفو أعلنت عنه الحكومة التركية، هل ستستفيدون منه وتعودون إلى تركيا؟

-لا.. لأن البيان يتعامل معنا كمجرمين، يقسمنا إلى أنواع، منهم من يشمله العفو، ومنهم من يجب أن يُحاكم..

-أنتم ماذا تريدون؟

-نريد أن نمارس حقوقنا في تركيا بكل حرية، أن لا تتعامل الدولة معنا كمجرمين..

-طيب منذ متى أنت هنا؟

-منذ 11 عام..

-ألا تريد أن تعود لأهلك؟

-بلى، لكن ليس بالطريقة التي تريدها الدولة التركية..

-كيف تريد الدولة التركية؟

-تريد أن نسلم سلاحنا، توزعنا إلى قسمين؛ تعفو عن البعض منا وتحاكم البعض الأخر، وتمنع عنا ممارسة نفس عملنا هذا الذي نريد أن نحوله من عمل مسلح إلى عمل سياسي..

-إذن ماذا تنوون؟ هل ستوقفون قرار وقفكم لإطلاق النار من جانب واحد الذي أعلنتم عنه؟

-تنتهي المهلة التي حددناها بداية أيلول، ننتظر تركيا أن ترد على مطالبنا التي أرسلناها عن طريق وفد أمريكي قبل انتهاء المهلة، إذا لم يكن هناك رد تركي على مطالبنا، بالتأكيد سنعود إلى سياستنا السابقة ببدء العمليات..

-المعلوم أن تركيا لن توافق على طلبكم، وأنتم لا توافقون على سياسة تعامل تركيا معكم، يعني أن الوساطة الأمريكية الأخيرة للمصالحة بينكم بائت بالفشل..

-نعم..

  

أشار المسلح إلى السائق بوقف السيارة، تركنا السيارة في إحدى نقاط الحزب، سرنا مشياً إلى عين ماء يتدفق، أشجار وبناية متواضعة، صحون لاقطة موجهة لإستقبال القنوات الفضائية المتنوعة، أغلب المسلحين هنا من النساء! سيدات في عِزّ الشباب، فضلن العيش هنا في هذه الجبال برفقة الرفاق الرجال، هنا فقط يشعر الإنسان أن لا فرق بين الرجال والنساء، أحياناً تنتقل هنا القوّامة للنساء على الرجال، حيث يَقُدنهم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.