شعار قسم مدونات

موسم الطاقة الضائعة.. في مكة!

Muslim pilgrims circumvent the Kaaba as they perform last 'tawaf' (circumambulate the Kaaba seven times in a counterclockwise direction) and important ritual to finish the hajj pilgrimage at the Masjid al-Haram (Grand Mosque), during Hajj at the Holy City of Mecca, Saudi Arabia, 14 September 2016. The Haj pilgrimage 2016 takes place in Mecca from 09 to 14 September.

مع نهاية كل موسم حج أو عمرة، يتجدد جدل الناس حول أعمال البناء والتجديد حول الحرم المكي، وما أفرزته التوسعة من تغول للأبراج والمراكز التجارية والماركات العالمية في أقدس بقعة للمسلمين على وجه الأرض.

 

غالبية الحجاج يأتون إلى مكة ليس لتأدية الفريضة فقط، بل لتنقية الروح والنفس.. يتوقون لتلمّس خطوات الرسول الكريم والصحابة ومعاينة أين سكنوا وكيف عاشوا وأي طريق سلكوا.. لكنّ الرحلة إلى الحرم تبدو مختلفة إذ تصافح أنظارهم عوضاً عن ذلك عشرات الفنادق الفارهة والمقاهي ومجمعات التسوق التي تخطف النظر والقلب عن روحانية اللحظة.

 

خيبة الأمل قد تصيب الكثيرين ممن يزورون مكة لأول مرة، خاصة إذا لم يسعفهم الوقت لتخصيص جزء من الرحلة لزيارة ما حول الحرمين من مواقع كالبقيع وجبل النور وغيرها.

 

الاستياء لدى الناس من الشكل الجديد لمكة، فتح الباب أمام انتشار أطروحة تقول أن مكة بدأت تتحول عمرانيا إلى ما يشبه مدينة "لاس فيغاس" الأمريكية، من حيث اعتماد عنصر الابهار والأنوار الأبراج الشاهقة والطرز الغربي المستحدث. 

 

الناس في قلب مناسك الحج سواسية في زيهم وتعبدهم لله ضمن فيض من الطقوس التي توحّد غنينا وفقيرنا، لكن خارج إطار النسُك يعود كلٌ منا إلى قسمته من الرزق والمال

فكرة "تحول مكة إلى لاس فيغاس" جاءت لأول مرة في كتاب نشر عام 2014، ويستند في طرحه إلى أعمال منشورة لمعماري أمريكي يُدعى روبرت فينتوري، استنسخ الكتاب فكرتها وأراد تطبيقها على مكة مغفلاً الكثير من الفروق التي تجعل النظرية لا تنطبق هنا.

 

لست بوارد أن أقدم نقداً للكتاب فلست متخصصة بالعمارة، كما أن فيه الكثير من النقاط التي تستحق الاشادة، لكنّ أساسه استند إلى فكرة لا تنطبق على مكة، مما جعل المقارنة غير مناسبة.. حيث أن عنصر الابهار وخلق الشخصية التسويقية لمدينة "لاس فيغاس" عمد إلى صناعة شهرة وتاريخ من لا شيء للمدينة ذات العمر القصير الذي لم يتعد المائة عام، إلى جانب استنساخ وتقليد أفكار من حضارات أخرى، وهو الأمر الذي لا ينطبق على مدينة بعراقة مكة وتاريخها الذي يمتدّ لأكثر من 4 آلاف عام.

 

وقد تبنى فكرة تشبيه مكة بـ لاس فيغاس، شخصيات تقدم نفسها على أنها من المفكّرين الإسلاميين والدعاة، فتحوّلت الفكرة بفعل شهرتهم إلى ما يشبه الموضة التي تتناسخ بين الناس لا سيما عبر وجبات "الثقافة" المعلّبة في السوشال ميديا، وأصبح الربط ما بين مكة ومدينة القمار والدعارة "لاس فيغاس" أمرا مستساغاً وضرورة من ضرورات اثبات أنك متنوّر وصاحب فكر.

 

قد نتفق جميعنا على أن جوهر الحج وهوية مكة بدأ يفقد الكثير من أصالته وقداسته في قلوب الزوار، لكنّ الحرص على طراز مكة وروحانيتها من جهة، والتهاون في احترام المدينة المقدسة وتشبيهها بالمدينة التي يسمّيها أهلها بمدينة الخطيئة، لا يبدو سوى تناقض حادّ وانسياق نحو فخ الأفكار المعلّبة.

 

قد نجد مئات الاختلافات في تقييمنا للشكل الذي صارت إليه مكة اليوم، فالبعض يزعجه وجود الأبراج الباذخة ومراكز التسوق و"ساعة مكة" لأنها أضخم من الكعبة وتخطف الأنظار عنها، لكن البعض الآخر يرى لا يراها كذلك.. إذ إن الطواف حول الكعبة في جوهره ليس طقساً وثنياً حول بيت من حجر حتى تخطف الأبراج منه هيبته وحضوره.

 

كما أن الناس في قلب مناسك الحج سواسية في زيهم وتعبدهم لله ضمن فيض من الطقوس التي توحّد غنينا وفقيرنا، لكن خارج إطار النسُك يعود كلٌ منا إلى قسمته من الرزق والمال، وهي قسمة متفاوتة لم يُنكرها الإسلام الذي لم يأتِ يوماً على شكل أطروحة ماركسية، ولم يسعى لنفي هذا التفاوت المادي حتى في زمن الرسول عليه السلام، فكان من الصحابة أغنياء وفقراء.. فضلاً عن أن القرآن الكريم أشار إلى موسم الحج كموسم للتجارة والبيع.. "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ".

 

مع الأسف فقد تحول الجدل حول مكة في مواسم العبادة إلى جزء من الثقب الأسود الكبير الذي يُراد له أن يبتلع جهود الناس بحثاً وتنظيراً، تماماً كمسائل حرية المرأة وعباءتها وقيادتها للسيارة، أو ما بات يُعرف بصراع الإسلاميين والليبراليين في السعودية الذي يحرق جهود وأوقات المفكرين وأصحاب الرأي، ويبقيهم في حالة صراع دائم ضمن دائرة رسمها لهم النظام السعودي، بطريقة تضمن انشغال أصحاب الرأي عنه وبقاءه هو خارج دائرة النقد والمعارضة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.