شعار قسم مدونات

نورٌ على نور

blogs-نور

تذكّرت سرب الطيور الذي يهاجر في الصيف بحثاً عن مصادر أخرى للعيش والدفء والطعام. كان أجمل المناظر التي رأيتها في حياتي، كثيراً ما يخطر في بالي هذا المشهد الذي لجم لساني حينذاك، لم أستطع أن أصرخ وأدعو الجميع إلى مشاركتي به، وتوقفت حينئذ. توقّفت إلى أن انسحب الحمام من السماء كلّها، عشقت ذلك المشهد، وبقي يدور في ذاكرتي، رغم مرور الزمن.

رحيلهم يذكّرني بشعبي الذي يرحل باستمرار، يرحل ليعيش، يرحل ليشق لنفسه حياة، خوفا من الموت، فرحلت ورحل الكثيرين، وبقي الكبار، وقليلون آخرون. كانت آخر مرة إتصلت بها بجدي قال لي: لماذا لا تأتين لزيارتنا في الشهر القادم؟ إن شاء الله. لم أكن أعرف لم في هذه المرّة بالذات لم يقوَ أحدنا على أن يقوّي الآخر كما كنّا نفعل دوماً، لا أعرف ما الذي حدث، لكنني بكيت وبكى. كأنّني أبحث وإياه عن سبب للبكاء، لم أكن أقوى على مواساته هذه المرّة بأن أقول له: "أنا معك يا جدي".
 

كثيرٌ من الوجوه لا أعرفها، ومع ذلك فقد عانيت من إلحاح معظمهنّ عليَّ بأن أتذكرهنّ. لا يفلح عقلي بالتذكُّر، لكنّني استجبت لرغبتهنّ، وأوحيت لهنّ- كذبًا- بأنّني تذكّرت

أرتعش ارتعاشات طفيفة من البرد. أمرّر يدي فوق النار المشتعلة، لا تدفئني حرارتها. أستنجد ببطانية سميكة ألفّها حولي، شيء من القشعريرة يربك جسدي، خائفة من أيّامي المبهمة. وها هي الثورة تشق لنفسها طريقاً، كما لو أن ما عشناه في أوطاننا مجرّد حلم التهمته النار المشتعلة أمامي، لعلّ دموعي المنهمرة وحرارة أنفاسي تدفئني قليلاً.
 

حركة غريبة في البيت صدّعت مخيليتي. استرقت السمع، لعلهنّ الجارات، خبأتُ رأسي تحت البطانية، سمعت أحدًا ينادي باسمي: عّمتي ملاك. أخرجت رأسي من تحت البطانية، حبيبتي . اقتربت عمّتي ملاك، ومع اقترابها، شعرت بأنفاسها المتقطعة، وضعت يدها فوق يدي، رأيت اللوعة في عينيها، شعرت بأنّ مكروهاً ما قد حصل لجدّي، لعلّه في المشفى، سيكون بخير. لا. ماذا تقصدين بلا، أين جدّي؟ جدّك قتل في المظاهرة الأخيرة. لا، لا، وعدته أن أزوره ولم أفعل، لم أفعل..
 

ضمّتني عّمتي، ولم أشعر بشيء سوى ارتجاف مفاصلي أكثر من قبل، حزن يبتلعني في لحظةٍ خاطفة، وقفت عمّتي وساعدتني على الوقوف. لِمَ لم أذهب إليه؟ لم أودّعه، لِمَ لم يخبرني أحد عن حقيقة ما يحصل هناك؟ لا أعرف لِمَ يتخلّل حزني غضب شديد، يكاد يخنقني من شدَّته؟ ارتديت الأسود، فقد كنت أبحث عن شيء يحزن معي كحزني.
 

أسئلتها الحزينة على جدّي و على نفسها، تجعلني أدرك مأساة هذا الحزن الذي تملّك عمتي ملاك. تقول "الحرب اللعينة، أبقتني وحيدة" ساعدتُ عمتي في توزيع الكراسي ليجلس عليها المُعزُّون. قالت عمّتي: جدّك كان يحب سورة النور، كان يقول إنّه لا يوجد في الوجود أجمل منها. اخترت شريط تلاوة عطرة يبدأ بسورة "النور" لصوت الشيخ محمد رشاد الشريف.
 

توافدت النساء إلى البيت، كثيرٌ من الوجوه لا أعرفها، ومع ذلك فقد عانيت من إلحاح معظمهنّ عليَّ بأن أتذكرهنّ. لا يفلح عقلي بالتذكُّر، لكنّني استجبت لرغبتهنّ، وأوحيت لهنّ- كذبًا- بأنّني تذكّرت، اشتدّت القبل والمجاملات، علَت أصوات النساء على صوت القرآن الكريم، فرفعت صوت المسجّل لعلّهن يصمتن.
 

أتكوّم على نفسي، أخفي وجهي خلف الحائط الفاصل بين غرفة الجلوس وغرفة العزاء، عادت إلى مخيلتي صورة جدّي وهو قادمٌ من باب البيت، كان يقول لي كلما أتيت إليه: أهلًا بأجمل الجميلات. كان يذهب إلى غرفته ويأتي بمبلغ كبير من المال بين يديه ويضعه في يدي قائلًا: هذه لكِ، عيدية. لكنَّ العيد قد مرَّ يا جدّي. يدّعي بإصابته بالخرف وأنا عليَّ تصديق ادعاءاته، أقول له: لا حاجة لي بها، كما أنّني كبرت على العيديّة، يبتسم لي: "مين أغلى منك؟".
 

أؤمن أنَّ الأحداث التي تجري في واقعي لا تعني لها شيئاً، وإن أعطيتها وصفاً دقيقاً ستسأم من كثرة كلامي، لذا أفضل الإجابات المختصرة، التي تكمن فيها الحقيقة المتناهية

جدّي كباقي الرجال، يعتقدون أنَّ الحب سيزداد إن قدّموا الهدايا الماديّة، لا يعرف أنّ محبّته في قلبي تفوق ملايين الدنانير. مواساة الناس لعمتي ملاك تبدو غير مجدية، فكلّما حاول أحدهم مواساتها، تسرح بعمق موقعة عينيها باتجاه المزهرية الذهبية. أختبئ مجدّداً خلف الحائط الذي يفصلني عن وجود النساء، ويتكاثرن مع حلول المساء، لم أرد أن يحدثنني، أبقى مختبئة خلف الحائط.
 

تمرُّ الأيام ثقيلة، وتثقلها أخبار التلفاز المشوّشة، وعقلي المتجمّد الذي لا يقوى على شيء. ذهبت إلى الجامعة ومن ثمّ إلى المجلة، أخبرتني صاحبة المجلة أنّ إنتاجي كان ضعيفاً هذه المدّة. إن شاء الله خير "أرد عليها بتثاقل"، تفاجئها إجابتي القصيرة قليلة الكلمات، لكنني أؤمن أنَّ الأحداث التي تجري في واقعي لا تعني لها شيئاً، وإن أعطيتها وصفاً دقيقاً ستسأم من كثرة كلامي، لذا أفضل الإجابات المختصرة، التي تكمن فيها الحقيقة المتناهية، سيكون عليها بعد ذلك أن تبحث لنفسها عن إجابةٍ بعينيَّ التعيستين، أو بلباسي الأسود، أو بآخر مقالة سلّمتها إيَّاها.
 

أتثاقل في طريقي، أشعر بأنّني كبرت تماماً لأدرك أنَّ الحياة ليست بعدد السنين التي عشتها وأنّ شبابي يفارق وجهي، وأنّني أبلغ من العمر ثلاثة أضعاف عمري، أتذكّر جدّي وعشقه لسورة النور التي تتلى في هذه اللحظة عبر المذياع المركون إلى زاوية المكتب على المنضدة، يذوي كل شيء في المكان إلا صوت المقرئ:

"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.