شعار قسم مدونات

أول صانعة أفلام محجبة

blogs - camera

أرسل لي أحد زملاء العمل مشكوراً تقريراً باللغة الإنجليزية نُشر مؤخراً عن أول صانعة أفلام محجبة في بلادنا. يخبرني زميلي أنّه أرسل مراراً إلى الموقع بوجهة نظر مغايرة لما جاء في ذلك التقرير لكن دون جدوى.

لا تناقش هذه التدوينة مدى مصداقية التقرير فهذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها نشر هكذا تقرير سواء أكان مكتوباً أم مرئياً ولا تَعنى التدوينة بتفنيد هذه الجزئية على وجه الخصوص، فعلى مقياس بسيط جدا في عام 1998 تعرّفتُ في الأردن على صديقتين يعملان في الإنتاج الوثائقي في قسم الإخراج ليستا فقط محجبتين بل ويرتدين الجلباب، فالجزم بمنْ كانت أول محجبة امتهنت الإخراج في العالم أو حتى على صعيدٍ محلّي معيّن ليس بالأمر الهيّن.

لا تضيع سنين عمرك في البحث عن شغف الآخرين لتقلّده وتخلق له بالإجبار حيزاً في قلبك فأنت بذلك تقتل شغفك الحقيقيّ.

وأمّا عن أهمية تخصيص إحداهنّ كأول محجبة في المجال ففي ظنّي لا أهمية لذلك، لكن ما يستحق التوقف عنده  هو اعتبار وجود صانعة أفلام محجبة تحدّياً يستوجب تأطيره في قائمة الإنجازات النادر.، مثل هذه العناوين قد يجدها القاريء الغربي عنواناً لافتاً يشحذ فضوله، لكنّ الحقيقة على أرض الواقع أبسط بكثير، فقطعة قماش على رأس الفتاة لا يمكن أن تشكّل عائقاً في عالم الإنتاج الوثائقي.

المحدّدات والمحاذير في عمل الفتاة المحجبة في الإنتاج الوثائقي هي ذاتها التي في أيّ عمل آخر، ربما الاختلاف هو اضطرارها للانخراط المتكرر في محاذير مختلف عليها فقهياً، فعلى سبيل المثال؛ من الهام أن تتواجد المخرجة خلف كاميرتها، ومعنى أن تكون المخرجة خلف كاميرتها يستلزم سفرها في بعض الأفلام، وهنا يعود إلى هذه المخرجة ما الذي تقتنع به فقهياً من ضرورات السفر ووجود محرم أم لا.

ولتوضيح الصورة أكثر على المخرجة أن تتواجد مع "المونتير" في غرفة المونتاج لعدّة ساعات لتحرير الفيلم موضوعياً وفقاً للسيناريو ولضبط التسلسل المرئي للصورة ولإسقاط المعالجة الإخراجية الخاصّة بالمخرجة..الخ.

ففي حال كان "المونتير" رجلاً فهل وجودها معه في غرفة المونتاج يُعدّ خلوة أم لا؟ هذا أيضاً يعود إلى ما تقتنع به المخرجة فقهياً، وهناك أمثلة أخرى كثيرة تقع في باب التنوّع الفقهيّ تواجه عمل الفتاة المسلمة في الإنتاج الوثائقي، والمقصد هنا ليس كونّها محجبة هو ما قد يرفع من مستوى التحديّات والمحدّدات بل قناعاتها الفقهية وتبنّيها لرسالتها الإعلاميّة كفتاة مسلمة ومقدار فهمها لدورها في الإعلام هو ما يصنع الفرق.

إنّ وجود عاملات محجبات في عالم صناعة الأفلام ممّن يحملن طابع الالتزام الدينيّ لهو أمر مدعاة للفخر، ولا يمكن إنكار موجة التغيير الكبيرة التي ظهرت مؤخراً خلال السنوات الخمس الأخيرة من شرائح مُتدينة واسعة في مجتمعاتنا تشجّع انخراط الفتاة المسلمة في العمل الإعلاميّ على عكس ما كان سائداً سابقاً، لذا تجد الفتيات يتعلقنّ بنموذج الفتاة المحجبة صانعة الأفلام لأنّهنّ يجدنّ أنفسهنّ داخل هذه الصورة غير النمطيّة بالنسبة لهنّ.

فالحجاب في ظاهره الرسالة المباشرة أنّني فتاة مسلمة أحمل أساسيات الالتزام بالإسلام، الأمر الذي يغذي حاجة القدوة في ذواتهنّ والتطلّع إلى مستقبل لا يعارض قناعاتهنّ وفي ذات الوقت لا يصارع طموحهنّ، لكن هناك فرق كبير بين الشغف بالصورة وبين الالتزام للمهنة.

فإن كانت الفتاة تستقي شغفها من البنية المظهرية الأخّاذة على صفحات التواصل الاجتماعي شديدة الاحتفاء بالنظام البصريّ من مرئيات شخصيّة أو مشاركات يوميّة حياتيّة تتناول حياة الشخصية صاحبة الحساب التي لا يعتريها أيّ خدش بصريّ، صورة غاية في النقاء البرّاق كمسلسل دراميّ، فهذا النوع من الشغف هو افتراضي من الصعب الاعتماد عليه كقاعدة لاتخاذ قرار من أريد أنْ أكون في الحياة.

والأهم أنّ على هذه الفتاة معرفة هل هي شغوفة بمهنة صاحبة هذه الصفحة أم هي شغوفة بحياة صاحبة الصفحة التي تراها على الشاشة؟ ولو كان شغفها بالمهنة، فعليها أن تسأل نفسها هل هي شغوفة بهذه المهنة لأنّها تتلاقى مع إمكانياتها الشخصية وطموحاتها المستقبلية أم لأنّها مهنة "COOL"؟

لا تعش حياة غيرك بسبب شغف لأنّ الشغف شعور، والمشاعر تتبدّل وتؤثّر فيها مجموعة عوامل متغيّرة، ولا يُفهم بأنّها دعوة لقتل الشغف. أخبرني أستاذي الذي يحمل درجة أستاذ دكتور في الهندسة ويعملُ أستاذاً في إحدى الجامعات أنّه قبيل ترقيته إلى هذه الدرجة تيّقن أنّ الهندسة ليست شغفه بل التعليم، فسألتُه وماذا عن هذه الأعوام التي مضت في الهندسة؟ فأجاب: كنتُ أعيش في شغف غيري الذي اعتقدته شغفي، وإبداعي في الهندسة كان سببه الحقيقيّ شغفي بالتعليم. أستاذي كان موفقاً إذْ تقاطع شغفه مع مهنته بيد أنّ الأمر لا ينجح مع الجميع.

هناك شغف حقيقي وهناك شغف مزيف يأتي على ذات القدر من الطاقة والتصميم والإبداع الذي يأتي به الشغف الحقيقي، ويمكن التمييز بينهما بإجابة صادقة عن دوافع ملاحقتنا لشغفٍ بعينه، و كلما اتسعت الدوافع لتشمل سدّ احتياجات الآخرين والنفع العام بما سوف نحققه كلما كان هذا الشغف أقرب إلى الحقيقة.

وكلما ضاقت الدوافع لتدور حول أمراض الأنا كلما كان هذا الشغف مزيفاً، الإجابة لا تحتاج إلى جهد فلسفي مُنهِك بل إلى جهد معرفي بسيط بذواتنا مدفوع بالصدق، لماذا أريد هذا المجال لا غيره؟ حالة الرضى عن الذات المنسجمة مع الشغف الحقيقي لا يعادلها الشغف المزيف بشيء.

لا تضيع سنين عمرك في البحث عن شغف الآخرين لتقلّده وتخلق له بالإجبار حيزاً في قلبك فأنت بذلك تقتل شغفك الحقيقيّ، حتى أنّك لم تمنح ذاتك الفرصة للتعرّف على شغفك الحقيقي أولتقابله بل اكتفيت بدفنه لظنّك أنّ شغف الآخرين هو بغيتك، لاتخشى أن تقف أمام المرآة لتكون نفسك فقط نفسك، فهل تعتقد جادّاً بأنّ النّاس سوف تؤمن بك في الوقت الذي لا تؤمن أنت بنفسك!

صديقتي لم تغيّر وجه العالم ولم تكتسح صورها الشاشات لكنّها بَنَت جسراً من الطمأنينة والراحة والسعادة لكل مَنْ عرفها.

صديقتي التي فقدتها العام الماضي -التي كانت تستكمل دراستها في الخارج لنيل درجة الدكتوراة- عادت إلى الأردن بعدما اشتدّ عليها المرض، كانت تهاتفني شبه يوميّاً تحدّثني في كل مرة عن فكرة جديدة لمعت في ذهنها تصلح لأن تكون مشروعاً خدمياً يفيد النّاس، وتؤكّد علي ضرورة زيارتها لنضع مخططاً للمشروع.

وبالفعل كلما سنحت لي الفرصة كنتُ أمرّ بها لأجدها جهزت الأوراق وأجرت بعض الدراسات حول فكرة المشروع، وسرعان ما تتفجّر شرارة شغفها في أنحاء الغرفة وهي تشرح ما تصبو إليه وتسجّلُ تاريخاً للتنفيذ، وكلانا على يقين أنّ مولانا الكريم لو أمهلها عمراً إلى نهاية الشهر القادم فهذا من تمام جوده.

لكنّ شغفها كان أصيلاً بريئاً نابعاً من روحها، رحلت صديقتي بهدوء دون ضجيج، وكلما ذهبت مع صديقاتي لزيارة والدتها عاد شغفها ليفيض علينا بطاقته وتدور أحاديثنا عن تلك الطموحات والأحلام وعن مخططاتها لتعصف ذهننا حتى بعد رحيلها بالحيوية والأمل.

صديقتي لم تغيّر وجه العالم ولم تكتسح صورها الشاشات ولم تلقَ على منشورها في العالم الأزرق أكثر من ثلاثين إعجاباً من العائلة والأصدقاء، ولم يحضر جنازتها شخصيات مجتمعية توصف بالمهيبة، لكنّها بنت جسراً من الطمأنينة والراحة والسعادة لكل مَنْ عرفها، لم يكن شغفها بحجم الكوكب لكنّه كان كبيراً بالحجم الكافي ليرزع في الأرض القاحلة وردة ليتعدّى جسدها بعد وفاتها كان ببساطة شغفاً بحجم الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.