شعار قسم مدونات

أبناء العاملين في الخليج

Bahrain's Foreign Minister Shaikh Khalid bin Ahmed bin Mohammed Al Khalifa speaks during a media brief after the Gulf Cooperative Council's (GCC) 37th Summit, Bahrain, December 7, 2016. REUTERS/Hamad I Mohammed
أبناء العاملين في الخليج شريحة كبيرة مستمرة من الثمانينات حتى اللحظة، جمعتهم عوامل مشتركة من حيث التكوين والذكريات والتعليم ونمط الحياة، ونظرا لطول فترة الرخاء في الخليج نسبيا – على عكس العراق مثلا- نشأت فيها أجيال كاملة حتى صرنا نرى الجيل الثالث والرابع أحيانا يتسلم راية الغربة من جد إلى حفيد! خاصة من تشهد بلاده الأصلية ظروفا تعيقه عن الرجوع اليها كحرب أو احتلال أو اضطهاد.

وفي دراسة أعدها مركز الجزيرة للدراسات نهاية عام 2015 وصل عدد العمالة الوافدة على اختلاف جنسياتها في دول مجلس التعاون الخليجي بصورة مجتمعة نحو 17 مليون فرد، ويرتفع العدد الكلي إلى 23 مليونًا أو أكثر بعد إضافة أفراد أسر العمالة الوافدة؛ مما يعني تشكيلهم قرابة نصف السكان في دول مجلس التعاون الخليجي!، وهو عدد يدعو للتأمل في كيفية نشأة أبنائهم وعوامل تشكيل وتكوين شخصياتهم.

يعاني أغلب أبناء العاملين في الخليج من كثرة الصدمات العاطفية نظرا للعلاقات التي يحكمها الفراق.

تربية أولاد المقيمين في الخليج ليست جيدة بالكلية ولا سيئة بكليتها أيضا، فهي بيئة لها وعليها، والأغلب لا يخفى عليه تلك المميزات التي حازها من تربى في الخليج من سعة مادية ونظام تعليمي جيد ورفاهية في أغلب جوانب حياتهم، ولكن في هذا المقال سنتعرض الجانب السلبي -الخفي- لنشأة تلك الفئة.
 

اضطراب الهوية:
من ضمن حاجيات الإنسان الضرورية في الحياة حاجته إلى الانتماء وأن تكون له هوية تميزه عن غيره ويعرف بها، والهوية هي مجمل السمات التي تميز شخصا عن غيره، أو مجموعة من الأفراد عن غيرهم كلغة وتاريخ وعادات ولهجة وثقافة .. إلخ.

والذي تربى في الخليج نوعان، نوع استطاع التكيف مع العادات والتقاليد وصارت الدولة التي نشأ فيها أحب اليه من وطنه المحسوب عليه اسما فقط، ونوع آخر لم يستطع التكيف وترفض شخصيته الانصهار مع هوية البلد التي تربى فيها لأي عوامل أخرى سواء شخصية أو اجتماعية.

وفي كلا الحالتين يعيش الشخص اضطرابا عنيفا في الهوية، فالذي استطاع التكيف معها ينازعه حنينه وحبه للأرض التي نشأ عليها – دول الخليج – وتربى فيها وبها ملاعب صباه وذكرياته!، ووضع المجتمع له في قالب هويته الأصلية التي لم بالكاد تشكلت في تعامله مع أسرته وبعض زملائه من نفس القالب، وقد سمعتها مرارا من تلك الفئة أنه يحن لأرض الخليج التي تربى فيها وبها ذكرياته وأصدقاء عمره أكثر من موطنه الأصلي! وهذا من الصعوبة بمكان أن تتعلق نفسك بأرض لا تقبلك وتضعك في إطار لا يسمح لك بالانخراط فيها. بالإضافة الى ان أي تعبير للمشاعر عن حبه لتلك الأرض يُفهم أنه على سبيل التزلف والمطامع وهذا عذاب آخر!

أما الذي لم يستطع التكيف يعيش تصادما عنيفا بداخله بين هوية موطنه الأصلي الذي صبغت هويته به من لهجة وعادات، وهوية الأرض التي نشأ فيها ولم يستطع التكيف مع أغلب تقاليده وعاداته!، ففي كلا الحالتين عذاب!

الشعور الأقسى في زيارته لموطنه الأصلي وتعامل أبناء موطنه معه على أنه (خليجي) نظرا للهجته الغير محبوكة والكلمات الدخيلة من اللهجة الخليجية عليها، وفي الجانب الآخر تعامله في دول الخليج على أنه من أبناء موطنه الأصلي وحسابه على كل صغيرة وكبيرة لوطن لا يعرف عنه شيئا!، فهو (خليجي) في نظر أبناء موطنه، وابن جنسيته المنتمي لها اسما فقط في أرض الخليج!، وهو في نظر نفسه مشتت لا يدري أين انتماؤه!.
 

شظف العيش المفقود!:
صارحني أحدهم ممن تربوا في الخليج أن أسعد أوقاته هي التي يقضيها أثناء زيارته لموطنه الأصلي! وبسؤال بعضهم تبين لي أن بالرغم من معاناتهم أثناء الزيارة من انعدام سبل الراحة التي اعتادوا عليها في الخليج، إلا أن الحياة ممتعة وليست روتينية كما تعودوها!، فهو مستمتع بالرغم من اللعب في الشارع بدل النادي وبالرغم من وقوفه في طوابير المباني الحكومية ومستمتع بزحمة الشوارع وركوب المواصلات!

الحياة في الخليج رغم راحتها المادية إلا أنها حياة روتينية خاصة مع ارتفاع درجة الحرارة وقلة خروج الناس من بيوتهم، فهي في الأغلب لا تكسب الإنسان خبرة في الحياة ولا في التعامل مع الأشخاص على عكس الحياة في غير دول الخليج التي لم تشهد طفرات مادية أخلت بتوازن الحياة فيها، فشظف العيش فيها يساهم في تشكيل شخصية الإنسان وإكسابه صلابة وخبرة يتقوى بهما في مسيرة الحياة. فهي كالمصل للجسم، أصله "فيروس" ولكنه يساعد الجسم على مقاومة "الفيروسات" الأخرى.

شعرت بذلك الشعور بعد خروجي في سفر إلى دولة شبيهة بموطني الأصلي مصر، بعد إقامتي في الخليج لعدة سنوات متتالية، شعرت وبلا مبالغة كأني استعدت روحي، وكنت أتعمد النزول صباحا للإفطار في المطاعم الشعبية وركوب المواصلات وقت ازدحام الناس ظهرا للاستمتاع بذلك الشظف المفقود!

ذلك الشظف الذي يجعل الإنسان يتسق مع سنة الله في الكون بالتدافع بين الخلق وتسييرهم في مسار الكدح والكبد وتحملهم إياه فهو القائل سبحانه "لقد خلقنا الإنسان في كبد"، فالمدللون ذوو الطبائع الرخوة يعيشون على هامش الحياة.

ولجان جاك روسو في كتابه (تربية الطفل من المهد إلى الرشد) كلام يلامس تلك النقطة يقول "إن المرء ينبغي أن يصون طفله، وهذا لا يكفي، بل ينبغي أن نعلمه كيف يصون نفسه حين يضحى رجلاً، وكيف يحتمل ضربات القدر وكيف يواجه البؤس والنعيم، وكيف يعيش إن اقتضى الأمر في الزمهرير والقيظ… فما من الموت مفر إن واجبك أن تعلمه كيف يعيش لا كيف يتحاشى الموت، والحياة ليست نفسًا يتردد بل هي نشاط واستخدام للجوارح والوظائف الحيوية من سائر عناصر كياننا، وليس أعظم الناس نصيبًا من الحياة من سلخ فيها سنوات أطول، بل من مارسها أكثر من سواه".

وهنا يجب أن ننوه إلى أن المقصود بالشظف هو نسبة الكدح الموجود في الحياة الذي يقوي من صلب الشخص ولا يقصمه!
 

صداقات أرض الخليج يحكم أغلبها الانقطاع إما بسبب العودة لوطن أو السفر لدراسة أو الاغتراب في بلد آخر.

علاقات اجتماعية يحكمها الفراق:
يعاني أغلب أبناء العاملين في الخليج من كثرة الصدمات العاطفية نظرا للعلاقات التي يحكمها الفراق للدرجة التي أوصلت أحدهم للقول بأنه لم توجد في حياته علاقة اجتماعية استمرت وأن جميع علاقاته الاجتماعية حُكم عليها بالانقطاع بسبب ظروف الاغتراب.

فصداقات أرض الخليج يحكم أغلبها الانقطاع إما بسبب العودة لوطن أو السفر لدراسة أو الاغتراب في بلد آخر، وصداقات الوطن تقطع دائما بانتهاء إجازة الصيف أو شهر الزيارة بعد أن كادت تتوطد.

من جانب آخر العلاقات العائلية لتلك الفئة تكون فاترة بشكل كبير، خاصة لو أنه من أسرة يصعب عليها النزول كل عام لزيارة موطنها الأصلي، فتصبح علاقاته العائلية مجرد اتصالات تتم بشكل سنوي – إن تمت – ، فيشعر الولد أنه منعزل تماما عن عائلته الكبيرة وأنه لا يجمعه بهم إلا اللقب والنسب وحسب! كثمرة نبتت من شجرة ولكنها على غصن وحيدة.
 

وأخيرا.. لكي لا تسوَدَّ الصورة، فقد استعرضنا المشكلة بشكل عام ولا يصح تعميم تلك النتائج على كل من تربى في الخليج فلكل قاعدة شواذ، والواجب العملي لمن قدر الله له تربية أولاده في أرض الخليج أن يحاول تلافي تلك السلبيات الخفية التي تتسلل أثناء تشكيل شخصيات أبنائهم حفظهم الله ورعاهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.