شعار قسم مدونات

المدينة والكوكاكولا: مفاهيم في التسويق العمراني

blogs - coca
"التركيبة السحرية لمذاق مشروب الكوكاكولا لم تكتشف بعد" كان هذا هو نص الخبر الذي تناقلته وكالات الإنباء بعد انتشار إشاعة الوصول الى سر التركيبة للمشروب الذي أسر العالم، وغير مفاهيم الاقتصاد ومخاطبة الجماهير والتسويق.

والطريف أن المشهد العمراني الإقليمي والعالمي الآن قد يرى فائدة كبرى في التعلم من تجربة الكوكاكولا ليس فقط كتركيبة مذاق سحري ولكن كإستراتيجية تسويق متنوعة وديناميكية في عصر التنافسية المحمومة التي تشمل مدن العالم. والواقع أن خلق شخصية تسويقية للمدينة هو مفهوم مهم ويصعب استيعابه وتفسيره في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من انه مفهوم جديد ولكنه أصبح حتمي التطبيق لأي مدينة تسعى للنمو في العالم المعاصر.

منذ ظهور فكرة التنافسية العمرانية ظهرت الآليات التي تتبناها المدن ومن أهمها سياسات تسويق المدينة للمساهمة في ترسيخ تواجدها على مسرح عالمي متنافس.

ولو نظرنا إلى تجربة كوكاكولا فإننا نندهش من أن حتى شكل الزجاجة أصبح علامة مميزة يتعرف عليها المستهلك حول العالم. المدن أيضا يمكن أن تكون انطباعات بصرية ذهنية تميزها عن مدن أخرى بالتركيز على ما تملكه وبالتخطيط لإضافة أبعاد جديدة لشخصيتها المعمارية والعمرانية.

بداية أشرك القارئ في الأطروحات النظرية التي أسست لحقبة جديدة في تفسير نجاح المدن ومن أبرزها الفكر التنموي الذي صاغه الباحث في مجال دراسات التنمية ريتشارد فلوريدا الذي أسس لحقبة جديدة في تاريخ المدن ومناهج تخطيطها وأساليب نموها فمشروع فلوريدا الفكري بدأ بكتابه المعنون "نشأة الطبقة المبدعة" والذي نشر عام 2002 وتناول فيه طرحا جديدا لفهم نسيج المجتمع الإنساني في حقبة ما بعد العولمة فبالفعل العالم تجاوز تلك الحقبة وأصبح تواصل الأفكار والأسواق والاستثمارات وانصهار الحدود المكانية والجغرافية سمة غالبة تشترك فيها كل المجتمعات المتقدمة وكذلك المجتمعات الساعية إلى حياة أفضل.

وفي كتابه التالي "من هي مدينتك" فقد تعمد فلوريدا أن تكون المدينة في العنوان بلغة العاقل بل إنه يذهب إلى ابعد من ذلك عندما يضيف قرارا ثالثا إلى أهم قرارين يتخذهما الإنسان المعاصر في حياته بإجماع علماء النفس والاجتماع، وهما المتعلقين بماذا يعمل وبمن يرتبط ويضيف فلوريدا قرار جديدا نابع من تداعيات مجتمع ما بعد العولمة وهو قرار أين تقيم؟ والى إي مكان على خريطة العالم تنوي أن تختار وطنك الجديد؟

وهذا الطرح وثيق الصلة بظهور ما يسمى بالمواطن العالمي أو عمال المعرفة نسبة إلى قطاع جديد من أصحاب العقول المجددة المفكرة المبدعة التي تعتمد على مساهمتها في القطاع المعرفي أو بالأحرى مجالات الاقتصاد المعرفي كأساس لنجاحها المهني، وهذه الظواهر هي التي دفعت فلوريدا إلى أن يحذر من أن هروب الطبقة المبدعة والمثقفة من المدينة يؤدي إلى وفاتها تبعا لتعبيره.

هذا القطاع الجديد من المجتمع الإنساني يصيغ تصورا جديدا للعلاقة مع جغرافية المكان فهو يتجاوز الأبعاد العاطفية التي تجعل البعض يتمسك بموطنه الأول وتجعل قدرته على التحرك محدودة ومقيدة بنطاق جغرافي معين قد لا يتجاوز في بعض الأحيان عدة كيلومترات من مكان ميلاده ونشأته كما هو الحال مع قطاعات كبيرة من المجتمع العربي.

هذه الفئة الجديدة من المجتمع الإنساني شديدة الحيوية والديناميكية لها تطلعاتها وأمالها في المكان الذي تختاره فضاء لإطلاق العنان لقدراتها التجديدية والإبداعية في عصر الاقتصاد المعرفي الذي يتأسس على قيمة الأفكار، ومن ثم فإن ظهور هذه الفئة ساهم في بلورة توجه جديد في الفكر التخطيطي طرحته الأدبيات تحت عنوان التنافسية العمرانية التي حفزت كل مدن العالم التي تسعى إلى موقع متميز على خريطة عمران القرن الواحد والعشرين.

لم يعد قرار الهجرة إلى مدينة أو دولة جديدة شرطه الوحيد العائد المالي الأوفر ولكن بالنسبة الى عمال المعرفة أصبحت المنظومة الاقتصادية المكانية للمدينة هي المؤسسة لمجموعة المعايير الأكثر ملائمة لإيقاع عصر الاقتصاد المعرفي والإبداعي.

ومنذ ظهور فكرة التنافسية العمرانية ظهرت الآليات التي تتبناها المدن ومن أهمها سياسات تسويق المدينة للمساهمة في ترسيخ تواجدها على مسرح عالمي متنافس والإنسان له فيه حق اختيار غير مسبوق بسبب تعرفه اليومي بل اللحظي على كل ما يحدث في عالم اليوم الذي لم يصبح فقط قرية صغيرة كما سبق أن طرح ولكنه أصبح عالم تفاعلي تعرف وتشعر فيه شعورا لحظيا بما يحدث فيه حتى لو على بعد الآلاف الأميال من مكانك المادي الفعلي.

الأكثر راديكالية في سياسات تسويق المدينة ان يتم تحويلها إلى ماركة او شخصية تجارية تؤثر في وعي الناس وتحولهم من معجبين بها الى مناصرين لها ومدافعين عنها بل ومسئولين عن إقناع الآخرين بتكوين أفضل الانطباعات الفكرية عن المدينة. فصياغة شخصية تسويقية مميزة لها قيمة رمزية كالماركات العالمية للمدينة فهي عملية تتطور في عدة مراحل أولها الوعي بالمدينة ولفت الانتباه إليها ووصولا الى الإيمان بها والدفاع عن مكانتها وقيمتها بحماس نرصده بوضوح في حوارات الناس عن مدن مثل باريس ولندن ونيويورك.

التساؤلات الهامة إذن كيف تخلق المدينة شخصيتها؟ كيف تسوق المدينة نفسها؟ لذا لم يعد مثيرا للدهشة استعانة المدن بخبراء تسويق عالميين لصياغة الإستراتيجية التسويقية لمدينة ما ، وللإجابة نطرح أهم الاستراتيجيات التي يمكن إن تحقق رؤية المدينة لشخصيتها المتميزة وهي:

أولا: القدرة على استقطاب الأحداث والفعاليات الهامة ذات التأثير العالمي.
ثانيا: توظيف الرصيد المعماري والعمراني بشقيه التاريخي والمعاصر.
ثالثا: البحث الجاد عن تميز المدينة الطبيعي ، الثقافي ، والإنساني.
رابعا: صياغة شخصية للمدينة لها روافد تاريخية وطموحات مستقبلية.

لكي تتمكن إي مدينة من خلق شخصيتها التسويقية يجب ان تبدأ بتقييم صادق لما تملك من مميزات وأيضا أوجه النقص والعوائق ثم محاولة تعظيم تلك المميزات.

هل نحلم بأن يكون السفر إلى المدن العربية القاهرة ، الدوحة، عمان، تونس، بغداد، وغيرهم، هو حلم أجيال جديدة من المجتمع الإنساني العالمي.

إن تسويق المدينة ليس عبارة عن شعار ولكنه في التفاصيل الدقيقة التي تجعل الشوارع نظيفة، وهي في التفاصيل العميقة التي تجعل قاطني المدينة سفراء لها وفخورين بانتمائهم إليها. ومن ثم تنتقل الرسائل الايجابية الى زوار المدينة الفعليين او الرقميين عبر الوسائط المتعددة الجديدة. ان إنتاج انطباع ايجابي هو فعل جوهري للمدن التي ترغب في الإعلان عن نفسها كمقاصد مختارة للناس سواء للعيش او العمل او الترفيه او الزيارة.

ومن هنا تأتي الأوساط الإعلامية كمجال لتسويق المدينة وقد استخدمت معدلات ذكر المدينة في الإعلام بكل أنواعه كدلالة على قوة شخصية المدينة وترتيب أهميتها على سلم المدن العالمية. إن إستراتيجية تسويق المدينة يجب ان تعتمد على حقائق وليس تصورات خيالية فيجب أن يشعر الناس بحقيقة المقومات التي سوقت لهم، وكذلك يجب أن تكون متعددة الأبعاد وديناميكية تستجيب لتطورات ثقافية واقتصادية وتنموية.

فهل نحلم بأن يكون السفر إلى المدن العربية القاهرة ، الدوحة، عمان، تونس، بغداد، وغيرهم، هو حلم أجيال جديدة من المجتمع الإنساني العالمي ترى فيها قيم عالمية متفردة لها قيمتها التسويقية تجعل الناس تتدافع متشوقين إلى استكشافها أو العمل بها أو اختيارها موطنا جديدا كما يتوقون الآن جميعا إلى عبق شوارع وميادين باريس ولندن ونيويورك. وأخيرا فان المدينة الناجحة هي مدينة تخاطب الإنسان وتتحاور مع عقله ومشاعره وهذا العنصر الأخير سيجعل من المدينة العربية اكتمالا لنموذج إذا تضافرت كل أنسجته سيكون غير مسبوقاً ويتحقق حلم العرب في مدينة يحلم بها العالم بأسره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.