شعار قسم مدونات

المعمارية زها حديد: لا نهائية التمرد

blogs - Zaha Hadid
في يوم 31 مارس 2016 توقف قلب واحدة من أكثر سيدات العالم تفردا، ماتت زاها حديد التي ولدت يوم 31 اكتوبر عام 1950. لم أكن أعتقد أبدا عندما بدأت التعرف على المعمارية الفقيدة، أعمالا وقراءة ثم حوارا، أن صفات التمرد والكفاح والنضال بمستوياتها العميقة والأصيلة يمكن أن ترتبط بمعماري معني بالتصميم والبناء. ماتت الفضولية مدمنة التمرد، دائمة التفكير، عاشقة التغيير.

تميزت زها بما يمكن أن نطلق عليه استدامة الشخصية النضالية. حقا فمشروعها النضالي لم ينحصر في فترة تعلمها او سنوات ممارستها الأولى، ولكنها حولت حياتها الى مشروع نضالي جدلي مستمر يحفزها ويحفز كل من حولها وكل من يتعامل مع أعمالها وفراغاتها ومشروعاتها. لقد أدركت زها قيمة النضال في رحلتها منذ ميلادها وحتى وفاتها.

 

هذه الرحلة النضالية ولحظاتها الفارقة منذ سنوات التعلم الاولى في بغداد الخمسينيات، إلى سنوات تكوينها وكفاحها للتحول من معمارية امرأة وحيدة مرفوضة إلى قيمة خالدة على الصعيد الإنساني والنسوي والمعماري والإبداعي. كانت زاها طفلة لا يتعدى عمرها السادسة ولكن والديها، المحبين للعمارة دون أن تكون مهنتهم، اصطحابها إلى المعرض الخاص بأهم معماريين القرن العشرين. انبهرت زاها بالرسومات والألوان والتكوينات والأشكال، وكان هذا أول لقاء في وعيها ولا وعيها مع العمارة والمعماري.

  

جانب فارق في نضال زاها حديد يرتبط بتخلصها المتعمد من فخ "انا عربية" وبالتالي انا منغمسة في التاريخ وملتحفة بالتراث ومقيدة بالتقاليد وعاجزة عن الاستكشاف والتجريب.

ومضة أخرى فارقة في طفولة زها ترتبط بعلاقتها الفريدة بالسياق الطبيعي لواحدة من أجمل المناطق العراقية وهي الأهوار في جنوب البلاد التي اعتادت السفر إليها مع عائلتها. فالمنطقة بها خاصية التفتت إليها زها في سنوات طفولتها ومراهقتها وهي التفاعل بين الطبيعي والإنساني، فهذه المنطقة مبهرة بطبيعتها. وقد اعترفت زاها حديد في حواراتها وكتاباتها ان هذا العنصر المستوحى من الطبيعة وتمازجها مع العالم الحضري، ينسحب على أعمالها، حيث تحاول دائما تكثيف تلك الانسيابية في سياق حضري عصري.

 

نضال الهوية العربية

"نعم أشتاق إلى بغداد" زاها حديد. جانب فارق في نضال زاها حديد يرتبط بتخلصها المتعمد من فخ "أنا عربية" وبالتالي أنا منغمسة في التاريخ وملتحفة بالتراث ومقيدة بالتقاليد وعاجزة عن الاستكشاف والتجريب. نعم أحبت بغداد واحترمت السياق ولكنها تذكرنا دائما بأنها عربية لكنها لم تترب وتنشأ بالمفهوم العربي التقليدي وتلقيت تربية حداثية في العراق. كما أنها منذ خروجها من بغداد للدراسة الجامعية، لم تقم مطلقا في العالم العربي وإنما أقامت في لندن بينما اكتسبت مواجهات ثقافية من تحركها الدائم حول العالم. ومن هذا المنطلق، وصفت نفسها قائلة "أنا لست النمط العربي المتعارف عليه".

 

وإلى جانب تفاعلها الأكاديمي الفكري مع معلميها في منظمة العمارة في لندن، فإن زاها حديد تأثرت تأثرا كبيرا بأعمال المعماري أوسكار نيمايير، وخاصة إحساسه الانسيابي بالكتل والفراغات. وتلك الأعمال ألهمتها وشجعتها على ان تبدع أسلوبها الخاص مقتدية ببحثه على الانسيابية في كل مشروعاته ومبانيه. وكان فوزها في مسابقة مشروع نادي القمة الخاص على تلال كولون المطلة على هونغ كونغ عام 1982، البوابة التي فتحت أمامها مجالا ليتساءل العالم ونقاد العمارة والأكاديميين عن هذه المبدعة المتمردة الرافضة ولكنها أيضا الفائزة.

 

كانت زها حديد عبقرية خلاقة بدون مثيل معاصر، كما أنها أسرت مخيلة محترفي التصميم والجمهور على حد سواء بتحدي كل الحدود في العمارة والعمران والتصميم والبناء والتشييد.

وهو المشروع الذي أصبغ عليها لقب المعمارية التفكيكية. لقد توقف نقاد العمارة أمام لوحاتها المرسومة للمشروع التي تتفاعل فيها الطبوغرافية التي أعادت صياغتها مع العناصر المتعددة المنشقة من التكوين والتي خضعت لقوة من اللا اتزان انتجت شظايا وقشور وفراغات وتجاب ثلاثية الأبعاد غير مسبوقة. ولكن الواقع أن جزءا كبيرا من مشروع زاها النضالي كان في مواجهة الاتهام المتكرر بأنها معمارية ورقية أعمالها تنشر ولا تبنى. هذا الاتهام الذي يسبب الألم العميق لكل مبدع في مجال البيئة المبنية لأنه يلمح إلى عدم جدواه ومحدودية إبداعه وتأثيره. ولكن زاها تحدت كل المنتمين إلى حقبات معرفية وتقنية متقادمة، وجعلت أفكارها تتجسد شيئا فشيئا. كما أخضعت تقنيات العصر في صالح مشروعها الإبداعي، فأنتجت مباني توقف الجميع يتأمل المنطق المتجاوز لفكرها الإنشائي والبنائي والمادي الفيزيقي.

 

تحولات البنية الجيومترية لإبداعاتها

تتعدد مستويات التمرد لدى هذه المعمارية الفارقة، بل أنها تتمرد على مدخلها ومفاهيمها لصياغة المكان. نتأمل هنا تحولها التدريجي من البنية الجيومترية التفكيكية التي ارتكزت فيها على انبهارها بالفلسفة التفكيكية وأطروحات جاك دريدا وتفاعل معماريون من أمثال برنارد تشومي وبيتر ايزنمان وريم كولهاس معها. تجاوزت زاها حديد هذه البنية وتقدمت الى فهم جديد للعلاقة بين الطبيعة وبين الصياغة الفراغية المعمارية والعمرانية تعتمد على صياغة جيومترية طبيعية ديناميكية عفوية بحرية نباتية موحية نابضة بالحياة. من خلال تعقيد فريد وإبداع رائع، قادت زاها حديد مكتبها التصميمي لخلق تحولات جذرية وعميقة في المشروعات الثقافية والإدارية والسكنية. والتزمت هذه المؤسسة التصميمية الفريدة بمبادئ وقيم مستمرة مثل السيولة الفراغية والابتكار والأصالة والتطور العضوي.

 

نضال المساهمة الفارقة النوعية

كانت زها حديد عبقرية خلاقة بدون مثيل معاصر، كما أنها أسرت مخيلة محترفي التصميم والجمهور على حد سواء بتحدي كل الحدود في العمارة والعمران والتصميم والبناء والتشييد. في وقت وفاتها الغير متوقع، كانت حديد قد رسخت نفسها بين النخبة من معماريين العالم. لقد تحولت زاها حديد من اعمالها الأولى المتأثرة بالمدرسة التفكيكية وما انتجته من مباني ذات زاويا حادة إلى بنية أكثر مرونة فيما بعد. بل أن الأرضيات والأسقف والجدران والأثاث اصبحت تتألف وتتلاقى لتكون أجزاء متداخلة بعضوية فريدة في التصميم العام. أن زها حديد حالة نموذجية لكفاح ونضال المبدع من أجل كسر القواعد القديمة وصياغة كونها المعماري الخاص.

 

وتستمر رحلة النضال لتتوج عام 2004 بالتقدير العالمي حيث حصلت على "جائزة برتزكير في العمارة" ‘Pritzker Prize’ لتكون أول امرأة ومن أصغر من حصل عليها على مدار تاريخ الجائزة. وأقيم الاحتفال بمنحها الجائزة في متحف التراث في "سان بطرسبرج" في روسيا. ولكن الجملة الدالة كانت في تقرير لجنة تحكيم الجائزة حيث أقرت "أن الطريق الذي خاضته "زاها" للحصول على الاعتراف الدولي، كان "كفاحا بطوليا". كما حصلت على الميدالية الذهبية للمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين. تحولت زها حديد بنضالها وتفانيها وإخلاصها لمشروعها الإبداعي إلى المعمارية الأولى في العالم بعد أن كان نقادها يتهمونها بأنها معمارية ورقية تجريبية. وانتشرت بصمتها الإبداعية عبر كل قارات العالم ومدنه الكبرى من أقاصي الصين مروراً بأوروبا وبلدان الشرق الأوسط، والعديد من المدن الأمريكية. بل وأصبحت مبانيها وحتى بصرف النظر عن وظيفتها هي "أيقونة" التي تفتخر كل مدينة بأن نسيجها اتسع ليشمل إحدى مساهمات زها حديد الفارقة.

 

خلود المعمارية الحديدية الزاهية

ماتت زها حديد ولذلك يجب أن تطفأ الانوار لأن وجودها على الساحة المعمارية والأكاديمية والفكرية كان نورا وتنويرا. حتى في الشرق الأوسط أطفئت الأنوار، فقد أطفأت دولة الإمارات جسر الشيخ زايد الذي صممته الفقيدة في أبو ظبي. ولكن خلود زها حديد يمكن أن يفعل ارتباطها بالشرق والعرب والعراق من خلال التعويض عن إهمالها لسنوات طويلة والتوجه نحو إحياء قيمتها من خلال برامج وجوائز باسمها في مدارس العمارة والعمران في العالم العربي. رحم الله المبدعة لا نهائية التمرد بنت العراق وبنت العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.