شعار قسم مدونات

وطني الذي جُنَّ من الحُزن!

blogs متسول

"وطني على درّاجته المثقوبةِ الإطاريْن، يطوفُ الشَّوارع مذعورًا

بحثًا عن ملاذ، وخلفَه يركضُ موكبٌ من اللّصوص…

وطني الحزين، وطني الذي جُنَّ من الحزن!

كمشة فراشات، عبد العظيم فنجان

 

لا تكفُّ هذي البلاد عن استدراجك لتكتبَ عن مآسيها، تقطعُ عهدًا على نفسك بألاّ تناقشَ أو تتفوّهَ بكلمةٍ في السياسة، فتجد نفسكَ مُحاطًا بأحداثٍ تحشرُكَ في الزاوية، أحداثٍ تُراودكَ عن نفسك رغمًا عنك، تتحرّشُ بك، تنقلكَ من مرحلة المتفرّج البائس إلى مرحلة العابث اللاّهث، دون جدوى.

 

لا نيةَ لمسؤولي هذي البلاد في جعلكَ تتوقفُ عن التحدّث مع نفسك، تعترضُ بإذنٍ، رافعًا سبّابتك إلى الأعلى فيأتي مَن يقطعُها لك، توبّخ بصوتٍ لا يسمعُهُ إلاّ مَن هُم حولك، ومعَ ذلك يخرجُ مِن بينهم مَن يصادر حقّك في السّكوت والصّراخ، تنتقدُ كلّ شيءٍ، تشجُب كمَا هيئات الأمم، ولا أحدَ يسمعك.

 

حقًّا، نحنُ مُحبطونَ بما فيه الكفاية، نتغذى مِن الأمل ولكنّنا نعودُ لنتسمّم به من جديد، ما مِنْ شيءٍ سيتغيّر في هذي البلاد، أكادُ أجزمُ بذلك، ها نحن نعيشُ يأسًا من التغيير، حبيسة أحلامُنا في علبٍ مِنْ ظلام، حتى طموحاتنا غَدَت شِبْه ميّتة كَحاكمِ هذا الوطن، تقفُ بصعوبة وتعودُ لتجلسَ هي الأخرى، على كرسيّها المتحرك، هي أحلامٌ شبهُ ميتةٍ، في وطنٍ أصبحَ عاجزًا حتى على اختيارِ أبناءٍ صالحين، يحمِلونَ عَلَمه. وجنسيّته!

 

أعترفُ بأنّني كنتُ أجهلُ قصة "فارس"، التي وردت في مقطعٍ بعنوان "راني زعفان"، للمدوّن الجزائري أنس تينا، والتي تروي قصةَ مشرّدٍ في أحياء العاصمة الجزائرية، فارس الذي اشتُهِر بترديدِ عبارة راني زعفان، إلى أنْ وافتْهُ المنيّة. دونَ أن يجدَ إجابةً واضحة تصفُ وتبرّرُ حالَهُ البائس اليائس.

 

بالرّغم مِن أنَّ محتوى الفيديو كانَ مُكررًا، لم يأتِ بأيّ جديد، خاصةً وأنّنا نعيشُ في ظلّ دولةٍ يخافُ شعبُها من الفتنة، ويرفضُ الخروجَ في ثورةٍ ضدّ حاكمها، لأنّهم لا يريدونَ عشرية سوداء جديدة، ولا حالًا يشبهُ حال البلدان الأخرى، ولأنّها كمثيلاتِها من الأعمال، لا تحتوي خطةً أو برنامجًا أو هدفًا للتغيير. وتفتقدُ للدّهشة.

 

إلاَّ أنّه قدّم لي معلومةً يُشكر عليها، فأنا لم يسبقْ وأنْ سمعتُ بقصة المشّرد فارس، ولم أقرأ عن حياته ووفاتِه يومًا، والتي حدثتْ في وقتٍ لم أكُنْ أعيش فيه بالجزائر، كنتُ أعتقدُ أنَّ حالاتِ الجنون نادرة، تأتي من الصّدمة القوية، من الحُزن المُفرِط، ومن الضّغط الشّديد، حدثتني يومًا موظفةُ في مكتبةِ الأسد بدمشق، عن شابٍ كانَ يحضّرُ رسالةَ الدكتوراه في الفلسفة، كان مُنهمكًا في الكتابةِ والبحث، وفجأةً، كَسَر صمتَ وهُدوء القاعةِ والمكتبة المُعتاد، ووقفَ على الطاولةِ يلقي خطابًا بأعلى صوتِه، أمامَ هوْل المشهد، أيقنَ الجميعُ أنَّ الشّابَ قد جُنّ.

 

جنَّ ربما من كثرةِ الضغط، وربّما من أشياءَ أخرى نحنُ لا نعلمُها، وأنا أسمعُ قصته ظننتُه آنذاك حالةً نادرة، دعوتُ اللهَ -كما المعتاد- "اللّهم ثبّتْ علينا العقل والدين"، إلاّ أنّ قصته لمْ تفتأْ تُغادِرْني، أيعقلُ أن نُجنَّ نحنُ أيضًا من فاجعةِ ما نراهُ كلّ يوم! قصةُ فارس المؤلمة، جعلتني أقفُ عندَ الكثيرين مِمّن يشبهون حالتَه، والذين أُصادفهم كلّ يوم، هو المشّرد البائس الذي ينامُ على الطرقاتِ، متّكئًا على جرحِ الوطن حينًا، وعلى خيباتِه حينًا آخر، أراهُ حاضرًا في كلّ مكان.

 

فما بالُ وطني يمتلئ بالمُشّردين والمجانين!

كلّ يوم من نافذة بيتي أسمعُ صوتَ مشرّد آخر، قادمًا مِن بعيد يصرخُ بلغةٍ غير مفهومة، يتكلّم مع نفسه، يرفعُ يدهُ محاولا ضربَ كلّ مَن يضحكُ عليهِ مستهزئًا، رثَّ الثياب، أشعثَ أغبر، حالتُه تصعُب على الكافرِ كما يُقال في المثلِ الدّارج. أحزنُ لحالِه، وأتساءلُ ما إذا كانَ لهُ من الأبناءِ مَن يرأفُ بحاله، أو يُشفق عليه. كلماتُه وإنْ كانت نابية في كلّ الأحيان، إلاَّ أنّني أشفعُ له، وأجدُ مبررًا لذلك، فهو ليسَ في حالةٍ طبيعيّة تمكنّه من أن يكونَ واعيًا لكلّ كلمةٍ أو حرفٍ يخرُج منه أو تصرُّفٍ يبدُر عنه، ثمَّ إنّني لا أعرفُ ظروفَه والحالة التي مرَّ بها حتى وصلَ إلى ما هو عليهِ الآن.

 

امرأةٌ مسنّة مشردةٌ هي الأخرى، لا مأوى لها، كما يبدو من حالتها، التي لا يقوى إنسانٌ على تحمّل رؤيتها على ما هي عليه، لشّدة ما تؤلمُك وتُحزنك، امرأةٌ ليس بإمكانِها سوى أنْ تكونَ متوحشّةً في وجهِ كلّ مَن يمرُّ مِن أمامها، فالله وحدهُ العالمُ بما حَدث ويحدُث معها كلّ يومٍ في الخَفَاء.

 

يعود السؤالُ نفسُه إلى الواجهة:

ما بالُ وطني يمتلئ بالمشردين والمجانين!

مَن أفقدهُم عقولَهم فأصبحوا يَهيمونَ على وجوههم في الشّوارع. مَن سرقَ ضحكاتهم وجعلَ منها مسرحيات هزْليّة، مَن حوّلَ أحلامهم إلى كيسٍ تتناثرُ منه حُبَيْباتُ الأمل، فتركضُ لتلتقطَها بصعوبةٍ كَمَن يحاولُ الحِفاظَ على الزّئبق دونَ أن يسيلَ من يديه. مَن قلّصَ أمانيهم البسيطة ومدّدَ رقعةَ سرقاتِه على حسابهم، من اختصرَ عقولهُم في ريشةٍ مُثقلة بالألم، تطيرُ في الهواء، لتسقطَ وحيدةً في زوايا الشّوارع القاسية! ثمّ كيف لا يُجنّ مَن يقرأُ خبرًا، يقول بأنّ بوتفليقة ينوي الترشُّح لعهدةٍ جديدة، كيف لا يجنّ -يالله- ورئيسٌ على حافة الموتِ لا يزالُ متشبّثًا بكرسيّ مِن خشب! كيف لا يجنّ وبطانتُه تضعُ شعبَها بين خياريْن، إمّا هو أو ستُسرَقُ الأوراقُ الانتخابية لأيِّ مُرشّحٍ آخر، وتُرمى بعيدًا.

 

كيف لا نُجنّ، ونحنُ نزحفُ نحو التغيير، محاولينَ الوقوف على قدمٍ واحدة، فيرمونَها برصاصِ قراراتهِم المفاجئ، كيف لا نُجنّ، وكلّ شيءٍ حولنا يرمي بنا إلى هاويةِ الجنون رميًا. كيف لا نُجنّ، ونحنُ نعيشُ في زُقاقٍ ضيّق، تسودُهُ الفوضى، وتُحيطُ به العصاباتُ من كلّ جهة، لا نملكُ أمامهم سوى أن نقول: ما بالُ وطني يمتلئ بالمشردين والمجانين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.