شعار قسم مدونات

فيلم "بادمافاتي".. زلزال مغولي يضرب سينما بوليوود الهندية

مدونات - بادمافاتي

الدعاية السيئة هي دعاية في النهاية.. هذا ما وقع لفيلم "بادمافاتي" الهندي حين رصد أحد أعضاء الحزب الهندي الحاكم المتطرف "جاناتا بارتي" مئة مليون روبية هندية، أي ما يعادل مليون جنيه إسترليني، لمن يقتل الممثلة الهندية ديبيكا بادكون التي لعبت دور ملكة بادميني مع الملك علاء الدين خلجي الذي يقوم بتجسيده "رانفير سينج"، والفيلم مستوحى من قصيدة شعرية كتبها في القرن السادس عشر الميلادي الشاعر ملك محمد جياسي، يتحدث فيها عن الملكة بادمافاتي لإقليم راجبوت في القرن الرابع عشر الميلادي وعلاقتها الغرامية مع علاء الدين خلجي، بعد أن قُتل زوجها في معركة ضده، بينما التقاليد الهندوسية تطالبها بأن تقتل نفسها وألا تقع بأيدي عدوها المنتصر.

 

بعد ساعات على إعلان الفيلم المتوقع عرضه مطلع الشهر المقبل في الهند جاء تهديد عضو الحزب الهندوسي المتطرف الحاكم بقتل الممثلة الهندية الذي طالب بالاطلاع على الفيلم كاملا قبل عرضه للتحقق من خلوّه من مشاهد مسيئة بحسب تعبيره، فرفضت الشركة المنتجة واستعاضت بعرضه الأوّلي في لندن وبنفس التوقيت، دون تعريضه لأي تعديل أو قطع أو تغيير، وبذلك حصد الفيلم شهرة عالمية لم تكن تحلم بها الشركة المنتجة ولا الممثلون أنفسهم بعد أن كاد يغرق في آلاف الأفلام المنسية التي صنعت واندثرت في تلك البقاع.

 

تاريخيا بادمافاتي كانت ملكة على إقليم راجبوت، وهي العرقية الوحيدة التي كانت تتمرد على الحكم المغولي، وكانت نساؤها معروفة بالرقص والغناء، ولذا فقد حرص السلطان المغولي أكبر على الزواج من إحدى نسائها، أما علاء الدين خلجي الذي كان أميرا في الهند فقد مال إلى بادمافاتي ومالت إليه، فكان الفيلم يصورها وهي ترقص أمامه، الأمر الذي اعتبره المتطرفون الهنود نيلا منهم ومن تاريخهم.

 

إذن لا يمكن أن تُصدّق ما يقوله عضو الحزب الحاكم من أن القضية لها علاقة بالأخلاق والمظاهر المخلة بالتمثيل، وإلا فلماذا لم ينتفض الحزب الحاكم وأعضاؤه تجاه آلاف الأفلام الهندية الخليعة أكثر من هذا بكثير؟ إذن القضية أعمق من هذا، ولها علاقة بالعقل الهندي الباطن الذي لا يزال يخجل من أربعة قرون حكم فيها المغول تلك المنطقة الشاسعة، وورثتهم اليوم هم الباكستانيون الخصوم بل والأعداء الحقيقيون للهندوس المتطرفين، تلك الحقبة الطويلة من الحكم مَكّنت المسلمين في باكستان وغيرها من تطوير نخب مسلمة عريقة كان لها الدور الأكبر في صياغة المنطقة بشكل عام، مما يُلقي بظلال سلبية يومية على المتطرفين الهندوس، ولعل هذا ما يفسر حساسية الهندوس المتطرفين المفرطة إزاء هذه القضايا القديمة الجديدة، فتُلقي مثل هذه الأحداث، مع تجددها، بظلالها التاريخية والثقافية والنفسية والمجتمعية عليهم، مما يجعل الهندوس المتطرفين يتحسسون من أي عمل أو فيلم يذكرهم  بتلك الحقبة.

 

 

أتذكر ذلك تماما وأنا أتجوّل بين حدائق لاهور الغنّاء، وأبنيتها الضخمة العائدة لتلك الأيام الزاهية، حيث كان مسجدها باد شاهي وسط لاهور من أعرق المساجد في تلك الأيام، والذي بناه الملك عالمكير الفقيه المعروف بالفتاوى العالمكيرية، والذي كان ثاني أضخم مسجد في العالم الإسلامي يومها بعد المسجد النبوي الشريف، إذ كان يتسع لمئة ألف مصلٍّ، مقابل المسجد قلعة لاهور العظيمة التي تُذكّر بعظمة تلك الحقبة، وأسفلها كما قيل نفق يصل بين لاهور والأراضي الهندية يتنقل من خلاله ملوك المغول، أما المعبد السيخي فإلى يمين المسجد، فكما أنه يُذكّر بتعايش الأديان والثقافات يُذكّر أيضا بعظمة الحكم المغولي وأبنيته الشاهقة مقابل معبد السيخ الذين حكموا أيضا لفترة قصيرة لاهور.

 

لن تنسى الأحزاب الهندوسية المتطرفة تلك القرون المظلمة من تاريخها، لا لشيء فقط إنما لتحكم المغول المسلمين بالمنطقة كما تردد، ولذا فهي تحاول أن تُوجد وتؤسس لمشروعية جديدة لها، ولكن تلك المشروعية لا يمكن أن تحصل من خلال الشعارات والتصريحات والتهديدات، إن التاريخ والثقافة والحضارة والمدنية التي تصدح صباح مساء في الهند وباكستان إنما تصدح بلغة مسلمة مغولية فصيحة يجسّدها تاج محل وغيره من الأبنية الضخمة والحدائق المغولية الغنّاء التي تحكي ثراء حضارة وثقافة لا يمكن أن تمحوها تهديدات ولا خطابات جوفاء.

 

نأتي إلى تعاطي الإعلام العالمي والعربي مع الحدث فنلمس الازدواجية الفاضحة، فماذا لو كان التهديد صادرا من حزب حاكم عربي أو مسلم؟ فكيف إن كان صادرا من جماعة إسلامية مسلحة؟ لكان ذلك تصدّر نشرات الأخبار العربية والعالمية، ولكان اُتهم الدين الإسلامي على الفور بالتطرف والرجعية ومعاداة الفن والثقافة والحضارة، وقد لمسنا ذلك في أكثر من حادثة، بينما نرى الصوم العلماني العربي وغير العربي عن هذه الحادثة.

 

أخيرا تستطيع الهند بعلاقاتها الدولية وبقدرتها العسكرية أن تتجاوز باكستان، ولكن لن تستطيع بقدرتها الثقافية والحضارية أن تصل إلى ما وصلت إليه باكستان التي هي امتداد لقرون من الحضارة والقيم والثقافة والحكم السلالي العريق الذي أفرز نُخَبا في كافة المجالات، ولعل أسطورة أن الهند أكبر الديمقراطيات العالمية تعرّضت لامتحان اليوم بذلك الزلزال الباكستاني الذي مركزه لاهور ولكن عمره يعود إلى أربعة قرون لا تزال ارتداداته تتردد في بوليوود الهندية عاصمة الهند الناعمة، والتي لم تَعُد ناعمة على ما يبدو بل دموية قاتلة، لنتخيل لو أن تهديدا صدر لممثل أميركي عن فيلم صُنِع في هوليوود بأميركا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.