شعار قسم مدونات

السطح المكون المهمش في عمارة العرب

Blogs-roof

لغويا فإن كلمة سطح، هي من كل شيء أعلاه، وهي تحمل معاني البسط والاستواء وهي ترتبط بالبيت لأنه الجزء المستوي الذي يسمح للإنسان بأن يعتليه ويتسطح عليه مستريحا فيسمى السطيح. والأكثر عمقا ما ورد في القرآن الكريم "وَإِلَى الأرضِ كَيْفَ سُطِحَتْ" الغاشية: 20. أي بسطت واستوت حتّى جُعلت مهيّأة للحياة الإنسانيّة والحيوانيّة والنباتية. ومن الذاكرة المعمارية والعمرانية لمدن العرب فإننا نستدعي مفاهيم حدائق السطح وحدائق بابل المعلقة، واحدة من عجائب العالم القديم، وهي عبارة عن حدائق شُرفية مكشوفة متدرجة. وعندما نتأمل اسماء الأسطح في ثقافة المجتمعات العربية التقليدية مثل المفرجة والمندرة والتعريشة والجلسة العلوية والشرفة والملتقى والليوان العلوي، نجدها كلها تعبيرات توضح أن حيز السطح لم يكن ابداً فضاءاً ثانوياً هامشياً ولكن الاسم يعني القيمة الجمالية والاجتماعية بل والبيئية.

 

 فقد عملت حدائق السطح ومناطقه المظللة على تحريك الهواء داخل المكان، نظرًا لفروق الضغط واختلاف درجات الحرارة ما بين المناطق المظللة والمناطق المشمسة، وبالتالي تساعد على زيادة الاتزان الحراري وتقلل من الظروف المناخية المجهدة للراحة الإنسانية وخاصة في جو مدن الخليج القاسي صيفاً. أما في المشهد المعاصر، فقد تحولت بعض المدن العربية، وخاصة العواصم إلى ما يشبه غابة كثيفة من البنايات الإسمنتية احتلت فضاءاتها ولم يبق احيانا أثرا للون الأخضر لمساحة عشرات الكيلومترات المربعة من حيز المدينة المزدحمة بالبشر وصخب الحركة وفوضى لا انتظام إيقاع الحياة.

ولذلك يبدو من الضروري أن أتساءل كيف تحولت الأسطح في مدننا من أحيزة حدائقية جميلة إنسانية واجتماعية تستقبل الجلسات العائلية، بل والأفراح والليالي الملاح إلى فضاءات مهملة قذرة مشوهة؟ هل تتخيلون أن أفراح قطاعات كبيرة من العائلات الشعبية بل والمتوسطة كانت تقام على أسطح البنايات؟ إذن لماذا تحول السطح إلى حيز مهمش في عمارات وبنايات مصر ومدن العرب؟ متى سمحنا للجماعات المهمشة بالزحف إلى السطح واحتلاله وتحويله إلى امتداد لسلبية المدينة وعشوائيتها وقبحها ولا إنسانيتها؟ متى استبدلنا الحديقة والمجلس والمقعد والتعريشة بخزانات الماء البلاستيكية أو بأطباق الأقمار الصناعية سرطانية الانتشار. أن تحليل الحراك في الفضاء الحضري في مدن العرب يبرز مستويين من التغيير.

  

إن فضاء السطح لا يجب أن يرى كمكان هامشي ولكنه يمكن أن يصبح حيزاً رائعاً لإعادة الألفة بيننا
إن فضاء السطح لا يجب أن يرى كمكان هامشي ولكنه يمكن أن يصبح حيزاً رائعاً لإعادة الألفة بيننا
 

ففي المدينة الخليجية المعاصرة التي مكنتها ثروات النفط من الابتعاد عن الحلول المستدامة ومنها السطح ومظلة سعف النخيل في أحد أركانه لتجتمع تحتها العائلة في الصيف القاسي، ولذا أهمل وسقط من المنظومة التصميمية والجمالية لمنازل تتكلف الملايين. أما في حالة القاهرة ومدن مصر وكثير من مدن العرب فإن زحف الجماعات الإنسانية المهمشة لم يمتد فقط إلى الأحزمة اللارسمية المحيطة بالمدينة، ولكنها تسربت تدريجيا إلى فضاءات الأسطح المنسية المنسوبة للمجهول، فأنشأت فيها عوالمها الخاصة البعيدة العالية السرية.

 

أصبح السطح المهمش مكانا مثاليا لاستضافة قطاعاً مهمشاً بل ومرفوضا من المجتمع. قطاع فشلت الحكومات بصورة متعاظمة في تقديم حلول تستجيب لمتطلباته. ليس المهم جماليات السطح ولا نظافته ولا منطق ملكيته المبعثرة أو المسئولية عنه، ولكن المهم جداً أنه يستجيب لاحتياج لا رسمي ولكنه فاعل ومؤثر وملح. إن فضاء السطح لا يجب أن يرى كمكان هامشي ولكنه يمكن أن يصبح حيزاً رائعاً لإعادة الألفة بين سكان عمارة لا يعرفون بعضهم البعض. قد يصبح هنا السطح هو السياق الاجتماعي الجديد، هو ميدانهم أو ملتقاهم أو حديقتهم وحديقة أولادهم ومكان استرخائهم شريطة أن يصمم بعناية وإنسانية.

إن المشكلة في مدننا العربية أننا نتعامل مع كل ما هو عام بأقصى درجات الإهمال واللامبالاة بل أحيانا نسميه "بتاع الحكومة". أهملنا دائما الرصيف والشارع والميدان والحديقة والسطح وكل ما توزعت ملكيته وتعددت الأطراف المسؤولة عنه. تصور مثلا عنصراً مثل دورات المياه العامة التي احيانا تؤكد حالتها والتعامل معها وأسلوب استخدامها، أن الاستعمال الحيواني احيانا أرقي من الاستعمال الإنساني وللأسف. هل هذه الظواهر تعكس توجهاً أنانياً يجعل الإنسان العربي شديد الاهتمام والحرص على الحدود والأحيزة التي يمتلكها (شقته، بيته، سيارته)، ولكنه غير معنيا على الإطلاق بالعام والجماعي والجمعي والمجتمعي.

 

فلنحاول أن نُفعل التحول لهذا الفضاء المهم السطح من كيان مهمش سلبي منسي إلى شرفة حدائقية ممتعة
فلنحاول أن نُفعل التحول لهذا الفضاء المهم السطح من كيان مهمش سلبي منسي إلى شرفة حدائقية ممتعة
 

لا أعتقد أن القضية معمارية وعمرانية فقط ولكنها بالقطع ثقافية واجتماعية وسياسية لأن المجتمع الذي يشعر بالاطمئنان والعدل والديمقراطية والمساواة يشعر فورا بالانتماء ويناضل ويكافح من أجل الحفاظ على مجتمعه ومدينته وبلده. أما الخائف المتردد الخاضع القلق فيصب اهتمامه على حيزه الخاص ويرفع دائما شعار فليذهب الجميع ضحايا الطوفان ما عداي. وفقط للاستشهاد، دعونا نتذكر معا سلوك المصريين وخاصة الشباب منهم وهم ينظفون ميدان التحرير والشوارع المحيطة به عندما شعروا بأقصى درجات الانتماء الوطني والمكاني أثناء الثمانية عشر أيام المقدسة في ثورة 25 يناير الغير مسبوقة.
   
دعنا نتخيل تحويل متكامل لسطح العمارة أو البناية إلى منظومة بيئية جمالية إنسانية منتجة وغير ملوثة بل و مصدرة للطاقة. إن عملية تحويل السطح إلى حيز بيئي اجتماعي لا تقف فقط عند تنظيفه ووضع أحواض للنباتات ولكن بالتعامل المتكامل معه وتحويله إلى حديقة متكاملة بها الجانب الجمالي التزيني وبها الجانب الإنتاجي وخاصة لأنواع من الخضروات والفواكه والأعشاب الطيبة التي يحتاجها المنزل. وهي أيضا عملية تصميمية تخطيطية متكاملة لأنها تشمل تحوي جلسات مظللة ومريحة تسمح بالتفاعل الاجتماعي بين أفراد العائلة أو البناية أو مع ضيوفهم وأصدقائهم وقد نضع مكانا بسيطا للشواء أو فرن الخبز ونعتمد على نظم إضاءة متولدة من الطاقة الشمسية.

  

يمكن لنا أيضا في هذا السياق توثيق بعض التجارب المحدودة التي حاول فيها شباب من النشطاء البيئيين والمعماريين في الأردن والكويت ولبنان من نشر الوعي بأهمية تحويل أسطح البنايات إلى حدائق تساهم في الحفاظ على البيئة ومنح جمالية للمكان وتوفير مكان للتعارف الاجتماعي. الواقع أن الاهتمام بالأسطح في مدن العرب يهدف إلى تحسين الحياة وجعلها أكثر إنسانية واستدامة.

 

اعتقد أن عناصر بسيطة في عمارة وعمران مدن العرب مثل الرصيف والسطح يمكن أن تُحدث تغييرا نوعيا وفارقاً إذا تم التعامل معها تصميمياً بكل إخلاص من قبل المعماريين والعمرانيين ومخططي المدن. وأيضا إذا تكاتف جهود الدولة ومشروعها الاجتماعي والثقافي والسياسي لتحفيز الناس على الانتماء والدفاع عن العام المجتمعي وتطويره والحفاظ عليه بنفس قدر حرصهم وسعادتهم بملكياتهم الخاصة الذاتية. فلنحاول أن نُفعل التحول لهذا الفضاء المهم السطح من كيان مهمش سلبي منسي إلى شرفة حدائقية ممتعة قد تستوعب أفراحا في مدن العرب التي يقينا تحتاج إلى كل المتاح من الفرح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.