شعار قسم مدونات

عندما أصبحتُ "أمّ البنات"!

blogs 3 بنات

رمقتني سيدة سورية كبيرة في السن وأنا أدخل مصلى النساء، أمسكُ بنتي الكبرى من جهة وبنتي الثانية بالجهة الأخرى وتتقدمني بطني وقد شارفتُ على أعتاب الشهر التاسع، فسألتني وأنا أسلّم عليها بعفوية تامة وبلكنتها اللطيفة: "إن شاءالله هالمرّة ولد؟"، فضحكتُ متوقعة ردة فعلها قبل أن أقول: "لأ، بنت ثالثة"، فشهقتْ شهقة لم أستطع حتى اليوم أن أتوقف عن الضحك كلما تذكرتها، ورَفعتْ يديها وهي تدعو بصدق حقيقي ومرارة غير مفتعلة: "إن شاء الله المرة الجاية ولد بإذن واحد أحد يا رب يا كريم".

 

لم تكن وحدها، راحت السيدات إلى جانبها يُؤَمِّنَّ وراءها وأنا أتوجه بكامل ابتسامتي لأجلس وأتمتم معهن: "إن شاء الله"، ولحسن حظي فقد جلست إلى جانب سيدة عراقية متوسطة السن وقد حضنت ابنها وبدأت تخبرني كيف حملتْ بطفلها الذكر بترتيبات معينة لدى طبيبتها النسائية وفق مبدأ العدّ المعروف وكيف نجح الأمر بتوفيق الله عزوجل، فهززتُ رأسي موافقة والرغبة بالضحك بصوت عالٍ لا تفارقني.

 

تخيلوا أن الأميركيين يشهقون الشهقة ذاتها، فقد أوقفتني سيدة أميركية زرقاء العينين في إحدى المخازن التجارية لتلاعب بناتي كما هي عادتهم حينما يرون أطفالا مع أهلهم، راحت تسألني عن حملي وفي أي شهر صرت وما جنس الجنين… وبمجرد أن أخبرتها أنها "بنت" فتحت فمها وشهقت شهقة أميركية مدوّية: "أووووه! أنوذر جيلر!!" ثم ابتسمت بصدق وأضافت: "هوب اتس أ بوي نكست تايم" ثم لاطفت البنات وهن يجلسن بعربة التسوق وغابت بين أكوام الملابس.

 

أدركت أنه ربما لا يتعلق المفهوم القديم بإنجاب الذكور بأن وجود المولود الذكر يعني استمرار النسل وحمل اسم العائلة إضافة إلى مفهوم العزوة والقوة والحماية، لكنه أصبح إلى حد ما يتعلق بفكرة التنوع
أدركت أنه ربما لا يتعلق المفهوم القديم بإنجاب الذكور بأن وجود المولود الذكر يعني استمرار النسل وحمل اسم العائلة إضافة إلى مفهوم العزوة والقوة والحماية، لكنه أصبح إلى حد ما يتعلق بفكرة التنوع
 

وقد أنجبتُ "مارية" طفلتي الثالثة الجميلة، وعندما زرتُ المسجد قبل أيام راحت السيدات يباركن لي ويَدعين لها بالبركة والصلاح والعافية، وبدون أن أشتكي أو أفتح الموضوع حتى قالت إحداهن: "ما عليكِ، بكرة يكبرن معا وتفرحين بهن ويصبحن كالعرائس أمام عينيكِ"، ففرحت حقا عندما ارتسمت صورتهن في عقلي وهن يكبرن أمامي والزهور والألوان والسعادة تحفنا وإياهن من كل حدب وصوب، فابتسمتُ من جديد مع رغبة داخلية بالضحك الشديد.

 

لم أُسِئ الظن يوما بأي من أولئك النسوة، فصدقهن في الحديث وبعضُهن لا يعرفنني أصلا يدل على بساطة وعفوية وتمنٍّ بالخير، لأن الأمر في الحقيقة لا يتعلق بهن كنساء ولا بسوء تفكير بالتأكيد، إنما يتعلق بالمفهوم المجتمعي الأزليّ والفطرة الطبيعية في البشرية.

 

الأمر يتكرر دائما وفي كل مكان تقريبا مع أميركيين وغير أميركيين، فهو إذن ليس مرتبطا بشعب دون آخر، وعلى ما يبدو أن العالم كله يعتبر وجود الابن الذكر في البيت ضرورة ملحة وفرضا واجبا، لكنه يختلف بدرجاته وفق مفهوم كل شعب.

 

طفلة ثالثة يعني ألا تقلق على نوعية الألعاب والاهتمامات، فالعرائس وألعاب "البيبي" والدباديب وأدوات المطبخ والإكسسوارات وربطات الشعر والألوان الفاتحة ستبقى هي هي وتملأ البيت وتزرعه بالرقة والحياة

ولا يرتبط الموضوع بالسن، فحتى صديقاتي من أمهات الجيل الجديد، الذي من المفترض أنه جيل الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا وعصر السرعة، يتصرفن بنفس الطريقة حينما يُثار الموضوع وهن يعتقدن بأهمية وجود الولد إلى جانب البنت في البيت.

 

أدركت أيضا أنه ربما لا يتعلق فقط بالمفهوم القديم -الذي بالتأكيد لا تزال آثاره في نفوس الناس- بأن وجود المولود الذكر يعني استمرار النسل وحمل اسم العائلة إضافة إلى مفهوم العزوة والقوة والحماية، لكنه أصبح إلى حد ما يتعلق بفكرة التنوع، أي أن يكون عندك بنت وولد حتى تتبلور صورة الحياة المتكاملة في عقل كل أب وأم.

 

صديقتي العراقية الكردية أنجبت طفلة أنثى بعد ولدَيْن، فكانت فرحتنا لها عارمة لأننا نعرف كم كانت تتمنى البنت هي وزوجها، وفي المقابل حزنتْ صديقة أخرى قليلا عندما عرفت بأنها حامل بولد ثانٍ، فقد كانت تتمنى بنتا لتكتفي بولد وبنت وتتوقف عن الإنجاب على الأقل لبضع سنوات.

 

في بداية الأمر كنت حقا أريد ولدا، ليس لأنني أريد "الذكر"، إنما لأنني فكرتُ بذات الموضوع المتعلق بالتنوع، أن يكون عندي البنات والأولاد، وقد انتظرت فعلا حتى يوم الولادة لكي أتأكد، لأن جزءا من عقلي سيطرت عليه "الفكرة القديمة"، وتأملتُ أن تخطئ الأجهزة الطبية المتطورة التي تكشف جنس الجنين لكي تكون "مارية" ولدا، لكنها جاءت "مارية" بحفظ الله ورعايته وفضله، ونسينا يوم ولادتها التفكير بالأمر من الأساس.

 

طفلة ثالثة بالمفهوم المجتمعي يعني يد عون ثالثة وطباخة ثالثة، وبمفهومي أنا يعني إبداعا جديدا ومهارة جديدة تعطي بيتنا لمسة وذوقا ورأيا آخر مختلف عن رأي أختيها
طفلة ثالثة بالمفهوم المجتمعي يعني يد عون ثالثة وطباخة ثالثة، وبمفهومي أنا يعني إبداعا جديدا ومهارة جديدة تعطي بيتنا لمسة وذوقا ورأيا آخر مختلف عن رأي أختيها
 

طفلة ثالثة يعني إعادة تدوير الملابس والفساتين والثياب المزركشة التي تمتلئ بها الخزانة، لأُلبسها من جديد لـ "مارية" وأظل أقارن بالساعات كيف كانت على "ميرة" وكيف كانت على "مريم"، طفلة ثالثة يعني استمرار حبّ الأميرات وكل ما يتعلق به وعشق الفساتين الأبديّ ولبسها في البيت وخارجه وأثناء اللعب والنطنطة والتلوين والنوم، يعني استمرار رسم الفراشات والأزهار والورود بكل الألوان، يعني أن الحقائب والآيس كريم والبالونات وفرشاة الأسنان وصحون الطعام يجب أن تكون ورديّة اللون بكل اشتقاقاته ودرجاته.

 

طفلة ثالثة يعني ألا تقلق على نوعية الألعاب والاهتمامات، فالعرائس وألعاب "البيبي" والدباديب وأدوات المطبخ والإكسسوارات وربطات الشعر والألوان الفاتحة ستبقى هي هي وتملأ البيت وتزرعه بالرقة والحياة.

 

طفلة ثالثة بالمفهوم المجتمعي يعني يد عون ثالثة وطباخة ثالثة، وبمفهومي أنا يعني إبداعا جديدا ومهارة جديدة تعطي بيتنا لمسة وذوقا ورأيا آخر مختلف عن رأي أختيها، طفلة ثالثة يعني صديقة ورفيقة ثالثة ستخاف عليّ وتحرص على قلبي ومشاعري في المستقبل كما ستفعل أخواتها.

 

طفلة ثالثة يعني مزيدا من الحبّ والرقّة وروح جديدة تغمرنا بالطمأنينة، وبناتٌ ثلاث يعني أن والدهن سيكون أكثر بهجة ودلالا وأقل قلقا وأكثر فخرا لأنهن بطبيعة الحال "مُعجبات بأبيهن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.