شعار قسم مدونات

"فيوري".. في فلسفة الحرب ومآسيها

Blogs- fury

يقول الفيلسوف والرياضي الإنجليزي برتراند رسل: "الحرب لا تُحدّد الطرف المُمثّل للحقّ، وإنّما تُحدّد منْ سيموت ومن سيبقى على قيدِ الحياة". حربٌ حامية الوطيس، لا تُبقِ ولا تذرْ، وأظنّ أنّ هذا التصوّر الوحيد للحرب! فعند نُقطةٍ معيّنةٍ منها،، تختفي جميع المعايير فيها، ولنْ يعود هناك ما يحكم أيّاً من مجرياتها، إلّا القتل والتدمير، ليصل إلى حدّ الهوس عندَ رجالاتِ الحرب، فقد قال نيتشه في هذا: "إنّ رجل الحرب سيهاجِم نفسَهُ في أوقاتِ السلام والهدنة"، وما قالهُ نيتشه هنا ليسَ بعجيب، وإنّما حقيقة، وهي حقيقة مُؤلمة، فأهمّ ما تُخلِّفه الحرب في نفوس الجنود هو هذا الكابوس المتمثّل بالقتل، التخريب، والدمار، كابوس يصطادهم طيلة حياتهم، والكثير منهم يقع فريسةً له.

 
الذين لم يعيشوا حرباً، لنْ يشعروا بمدى فظاعتها -وأنا منهم طبعاً- ولكنّي أُحاول أنْ أُترجمَ ما أشعرُ به،، يقول ميخائيل نعيمة: "انتهتْ الحرب، في ذلك اليوم رقص الملايين من النّاس في شتّى بقاعِ الأرض، وغنّوا وسكروا وعربدوا، إلّا الذين تذوقوا طعمَ الحرب، أولئكَ ظلّوا صامتين"، نعم سيبقوا صامتين! فبشاعة الحرب فعلتْ فِعلها معهم، وأوغلتْ في نفوسهم، ومزّقتهم دونَ سابقِ إنذار! وكمثال قوي على فلسفة الحرب هو فيلم "غضب" (Fury).
 
"Fury" هو أحدْ الأعمال اللامعة في عرضِ مآسي الحرب وتداعيتها، وبعيداً عن أيّ تحليل لأبعادِِ الحرب العالميّة الثانية التي طُرحت في الفيلم، فقدْ رأينا تراجيديا الحرب ومآسيها بنسقٍ مختلف تماماً، فترى "Brad Pitt" قائد المدرّعة الشرس على مرأى منْ حوله، وتراه حيناً آخر الإنسان المكسور في جحيمٍ ذاتيّ، يلملم شظاياه المبعثرة -جرّاء هذه الحرب- في كلِّ برهةٍ يستطيع اختلاسها بمنأى عن كتيبته، وليشُقَّ طريقه بعدها داخل الأراضي الألمانيّة ضد أوباش النازيّة حينذاك، هذا من جهةِ قائدِ الكتيبة، أمّا من جهة جنودها، نرى المسكين "Norman" والذي لعبَ دوره الممثل الشابّ Logan" Lerman" مرتعداً من هذه الحرب، ورافضاً للقتل الحاصل فيها، حتّى أنّ "Brad Pitt" دخلَ في حيرة! سائلاً نفسه كيف لمثل شابٍّ كهذا أنْ يدخل غمار حربٍ كهذه، ليأخذَ على عاتقه مهمّة تجريده من ضعفه، لأنّ هذا الضعف مآله الموت والضرر للكتيبة أيضاً.
 

إنَّ أكثر ما يُؤلم في الحرب، هو تقتيل المدنيين وتشريدُهم، فالناجي من الحرب، لا بدَّ أنْ يتشرّد ويضيعََ بعدها!
إنَّ أكثر ما يُؤلم في الحرب، هو تقتيل المدنيين وتشريدُهم، فالناجي من الحرب، لا بدَّ أنْ يتشرّد ويضيعََ بعدها!
 

لم يبقَ "Norman" على حالِه، فسرعان ما واجهَ موقفاً قلب موازين نظرتِه للحرب، وقد تجلّى ذلك بتعرّفه على فتاةٍ ألمانية تُدعى "Emma" وهذا منْ خلال تجوالهم في حارات برلين، ليقعَ في حبّها ومن أوّل نظرة، ولكنْ لم يلبثْ هذا الحبّ! فقدْ انتُزع عنوةً بصاروخٍ دمّر منزلها، وتاركاً إيّاها ميتة تحت الحُطام! وليأتي هذا المشهد المأساوي، العجيب في مأساويته، "Norman" صارخاً يهرعُ لإنقاذها، ليُطلَّ الممثل والجندي المجهول "Jon Bernthal" ليُمسك به، ويقول له بحُرقة: "It’s called war…you feel it" لنلحظَ في هذا المشهد أنّ التأزّم في شخصيّة "Norman" قد سلك سبيلاً آخر، ألا وهو الاقتناع بقتلِ النازيين، ليحظى بعدها بلقب "Machine".
 
احتدمَ الصراع بين النازيين وكتيبة الدبابة "Fury" وفي مشاهد تُظهر براعة المُخرج في تصوير ملاحم هذه الحرب! والتي تتدرّج بك على أنغام موسيقية للإنجليزي "Steven Price"، وتارةً ترى صراعات ظاهرة للعيان وقتل وخراب، وتارةً أخرى ترى صراعات داخليّة نفسيّة لشخوص هذه الكتيبة، إلى أنْ يتفجّر لُغم أرضي في الدبابة، واضعاً أفراد هذه الكتيبة في مواجهة ضد أشرس كتيبة في الجيش النازي "The SS Battalion" ولتتفق الكتيبة على الهروب تاركين الدبابة خلفهم، إلّا أنّ هذا لم يحصل! فقد رفض Brad Pitt الهروب ليقول لأصحابه: "you can go…it’s alright…but this is my home" لتبدأ نهاية هؤلاء الجنود.
 
نهاية تراجيدية محضة لقائد بعث الأمل على طول الخطّ، وهذا يستحضر ما قاله نابليون بونابارت:: "القائد هو تاجر الأمل" فهو يعلم أنّ نهايته ستكون على أيدي هذه الكتيبة النازيّة، ومع كلِّ هذا ظلَّ يبثُّ الأمل في صميم كتيبته، فهذه مهمّته، وبدونها لنْ يكونَ قائداً، ولنْ يستحقّ لقب القائد حتّى، وفي خضمّ المعركة، رأى جميع زملائه يتساقطون، وقد كان يبكيهم واحداً تلو الآخر! لينتهي به الأمرُ معتذراً ل "Norman" الناجي الوحيد، وليُعرب عن أسفِه له وهو يفارق الحياة: "I’m sorry son…I did my best" ليردّ عليه Norman: "I wanna surrender" ويبقى الأمل في كلامِ Brad Pitt ومع آخرِ نَفَسْ: ..Please don’t…they will hurt you real bad and they will kill you real bad" وليهربَ "Norman" من فتحةٍ كانت في قاعِ الدبابة، ليُنقذَه بعدها جيشه والصليب الأحمر.
 

هذه هي الحرب! شعواءٌ لا تأبهْ بشيء، مُرعبة وكاسرة للقلوب! مُدمّرة، وحُجّتها المُفلسة دائماً هي الوصول للسلام!
هذه هي الحرب! شعواءٌ لا تأبهْ بشيء، مُرعبة وكاسرة للقلوب! مُدمّرة، وحُجّتها المُفلسة دائماً هي الوصول للسلام!
 

إنَّ أكثر ما يُؤلم في الحرب، هو تقتيل المدنيين وتشريدُهم، فالناجي من الحرب، لا بدَّ أنْ يتشرّد ويضيعََ بعدها! وقد عُرضَ في الفيلم وعلى لقطات سريعة، صور للجُموع اللاجئة من مدنِهم وقراهم، وهذا ما نراهُ بشكل يومي في سوريا والعراق! وعايشناه نحن في فلسطين خلال سبعين عاماً! فكلُّ ما كتبتُ هنا لا يُعادل دمعة واحدة من طفل فقدَ والديه! لا يُعادل حسرة والد فقد أبنائه! لا يُعادل إراقة دماء لشبابٍ عاشوا تجربةً حقيقة لحرب ضربتهم من كلِّ جانب! ولا يُعادل صورة الطفل السوري الذي وُجدَ ميتاً على أحد شواطئ تركيا! أو فيديو محمد الدرّة مع والده! 
 
هذه هي الحرب! شعواءٌ لا تأبهْ بشيء، مُرعبة وكاسرة للقلوب! مُدمّرة، وحُجّتها المُفلسة دائماً هي الوصول للسلام! فدائماً ما يقال: أنّ الحرب مبتغاها "سلامٌ على الأرض" وأيُّ سلامٍ هذا الذي يسبِقُه قتلٌ وتدميرٌ بالجُملة! وللأسف فهذا هو منطق الساسة عديمي الرحمة والإحساس، داعمي الحروب، أصحاب التصوّرات الدمويّة، والأنكى من هذا كلِّه، أنّهم يُشاهدون هذا الدمار الذي صنعوه من بعيد، ولذلك لن يعرفوا معنى كلمة "حرب" فهم صُنّاعها ولكنّهم ليسوا بخائضين فيها!

  
وكما بدأتُ المقال بأحد عبارات الفيلسوف الإنساني -والمُلحد للأسف- برتراند رسل، سأُنهيه بعبارةٍ لهه أيضاً، معبّراً فيها عن مأساة البشر، وفي هذا يقول: "أحدِ الأمور التي لا يطالها عقلي بالتفكير بها، هي الشفقة الغير مُحتملة والطاغية على الذات جرّاء معاناة البشر" وبالفعل هذه الشفقة لا تُعطى في كلمات وعبارات، ولن تُحيطها نثريّات وأشعار مهما كانت عميقة ورنّانة، والرؤية في معاناة البشر واسعة جدّاً ومترامية الأطراف كالمحيط، وروحيّة في صميمها، والكلمات ماديّة، وقاصرة في التعبير عنها على غرار المتصوّف "النفري"، وأظنّ أنّ هذا أقصى ما لدينا في وصفِ حالةِ الحرب وتداعياتها من مآسي ومعاناة، مقارنةً بمنْ عاشها وخبُرَ مصائبها، فهو صاحب القول والمعنى، هو الذي عاش ولم يُنظّر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.