شعار قسم مدونات

"عهدُ" فلسطين الباقية

مدونات - عهد التميمي

يخالجني الشعور بالقوة من حيث لا أدري وأنا أطالع صور الطفلة "عهد التميمي" وهي تقاوم مجندين في أيديهما بنادق مرعبة مدججة بالرصاص، تتملكني القشعريرة ويديها وقدميها تركلهم بكل قوة وثبات. من أين تأتي بالثبات؟ الثبات الذي يخوننا جميعاً ونحن نتفرج من بعيد، نراقب الأطفال يعيشون الحروب فنتحسس على صدورنا للتأكد من قلوبنا فيها، ونحتضن فلذات أكبادنا داعين أن يجنبهم الله ما يعيشه أطفال الحروب والمجاعات واللجوء.

هي "عهد" التي قارعت طفولتنا البائدة فهزمتها شر هزيمة، وتركتنا أمام حيرة في تصنيفها إن كانت طفلة حقاً أم سهماً ناريّاً ظل يتقد منذ أن ولدت حتى غدا يلهب كل من يقترب من أرضه ويغلي في دماء المحتل ليزيده احتقاناً وغلاً وحقداً. هي طفلة رغم أنها صبية.. في القانون الدولي باتفاقية حقوق الطفل في المادة 1 فإن سن الطفولة ينتهي عند الثامنة عشرة، لكن "عهد" ذات الستة عشر ربيعاً ليست طفلة في نظر قانون الاحتلال الإسرائيلي غير المعترف به ويحق لهم اعتقالها كما يعتقلون ويحتجزون أطفالاً آخرين أصغر منها يتراوحون ما بين 12-18 عاماً دون الاكتراث لمصطلح الطفولة من الأصل.

 
فقد تجاوز عدد الأطفال المعتقلين منذ انطلاق الانتفاضة الثانية في سبتمبر عام 2000 الى أكثر من 7000 طفل فلسطيني حسب صحف عربية ومنظمات فلسطينية تُعنى بالمعتقلين والأسرى الفلسطينيين، عديدون من هؤلاء الأطفال ما يزالون حتى اليوم في سجون المحتل.
 

كشفت
كشفت "عهد التميمي" اللثام عن أطفال وطفلات أقوى من آلات الحرب ومدرعات القمع ورصاصات الانتهاك والعنصرية
 

"عهد" الطفلة التي ظهرت أقوى من كل الرجال، هددت وتوعدت وطردت وركلت وصفعت جندياً مدججاً بسلاحه تملكه الخوف من عيني اللبؤة ففر هارباً، ليعود بعد ذلك ومعه جنود آخرين ليقتادوها الى السجن والاعتقال وكأنها مجرمة… وحاشاها أن تكون كذلك وهي ابنة الأرض ومنها منبتها.

  
تقول الاتفاقية العالمية الخاصة بحقوق الطفل في المادة 37 (ب) أنه لا يجوز أن "يحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية، ويجب أن يجري اعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقاً للقانون ولا يجوز ممارسته إلا كملجأ أخير ولأقصر فترة زمنية مناسبة" وهذا ما يفعل عكسه تماماً جبناء قوات الاحتلال الإسرائيلي، فهم يعتقلون الأطفال الفلسطينيين بكل همجية ويحققون معهم ويعذبونهم ويطيلون أمد الاعتقال، ويعرضونهم للحبس المنزلي الذي يدمر حياتهم وطفولتهم ومستقبلهم. فعن أي عهد طفولة نتحدث ونحن أمام أطفال يقفون في وجه الأسلحة والدبابات دون خوف، واثقون من حقهم في أرضهم التي سكن عليها أجدادهم منذ مئات السنين، فلا تردعهم الدبابات ولا توقفهم البنادق.

 

عهد التميمي داخل المحكمة العسكرية الإسرائيلية بعد أن تم تمديد الحكم عليها بالسجن 10 أيام  (مواقع التواصل)
عهد التميمي داخل المحكمة العسكرية الإسرائيلية بعد أن تم تمديد الحكم عليها بالسجن 10 أيام  (مواقع التواصل)

 
"عهد" ذكرتنا بقوتنا التي لم تعد في أيدينا، بسكينتنا التي لم تعد تطمئننا، ببيوتنا التي لم تعد تؤوي راحة بالنا، بنجاحاتنا التي لم تعد تعني شيئاً أمام فشلنا في أن نكون هناك معهم. كشفت "عهد" اللثام عن أطفال وطفلات أقوى من آلات الحرب ومدرعات القمع ورصاصات الانتهاك والعنصرية. ذكرتنا بمحمد الدرة الذي استشهد بين يدي أبيه في انتفاضة الأقصى عام 2000، وعرجت على الحدود وكسرت الحواجز الاحتلالية وغادرت ناحية سوريا لتذكرنا بالطفل حمزة الخطيب الذي عذب حتى الموت مطلع الثورة السورية عام 2011، ورسمت عينيها مكان عيني الطفلة اليمنية بثينة التي نجت وحدها دون أهلها الذين قضوا جميعاً في قصف التحالف العربي لبيتها، بينما يتضور أطفال يمنيون وسوريون جوعاً ويعيش آخرون في المخيمات، ويرزح غيرهم تحت أدنى مقومات للحياة فلا مدارس ولا بيوت ولا كهرباء ولا ماء نظيف في مصر وليبيا والعراق ودول أخرى.

 
"عهد" الطفلة صفعت الذل والمهانة، صفعت التاريخ الذي تجرأ على تغيير مسار الأسماء والمسميات، غيروا ما شئتم فالأرض باقية، والزيتون باقٍ… والقدس على "عهد" ووعد وثبات وأنفسٍ أيضاً باقية… ستظل باقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.