شعار قسم مدونات

٢٠١٧.. عام الانتحار

blogs دمار

انتحرت الديمقراطية هذا العام؛ فبعدما كانت تتغنّى أنّها أفضل الأنظمة الموجودة وأكثرها عدلاً، أنجبت مهرّجاً سلّمته أعظم قوّة دولية، وانتحرت. تركتنا هنا نتساءل عمّا إذا كانت الحرّية تستحقّ دماء كلّ الذين ماتوا من أجلها إذا كانت في نهاية المطاف قد تسلّم مصائرنا لبلطجي يحلم بأن يكون دكتاتوراً كطغاتنا، لكنّ قوانين بلاده تحدّ من نزعاته داخلياً فيروي غليله بالطغيان فينا.

 

انتحرت الديمقراطية لأنّها لم تعد مقنعة بعد أن فهم كلّ الطغاة كيف يمكنهم التلاعب بها. فالديمقراطية مسألة حسابية في نهاية المطاف. العدد هو المهمّ، والخوارزمية التي أطلقت يدي حرّية التعبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي هي أيضاً مسألة حسابية. الأنظمة الشمولية التي خافت منها في بداية انطلاقها سرعان ما غيّرت رأيها بعدما اكتشفت كيفية تسليم زمام الدكتاتورية للشعب.

 

هذا العام الأخلاق يئست منّا فتركتنا ننهش بأعراض بعضنا البعض، نشتم بعضنا، ونبعبع بوجه بعضنا البعض، من دون حتّى محاولة تبرير انعدامها

إذا كان لشخص رأيٌ مخالف للنظام، أطلقت يد مئات الحسابات لموالين له، والموالون كثر، فالأغلبية لا تريد مسؤولية الحرّية، الأغلبية تغلّب خوفها وجبنها على أي نزعةٍ أخرى، فتسمح لنفسها بأن تقتنع برواية الأنظمة أن من ماتوا ماتوا بسبب الحرّية وليس بسبب قرار الأنظمة قتلهم كعقابٍ لطلبهم الحرّية، تسمح لنفسها بأن تقتنع بأنّ الأمن أهمّ من الحقّ، بأنّ لقمة العيش أهمّ من الكرامة، بأنّ الخنوع أسلم من الحرّية.

 

الحرّية هي أيضاً انتحرت هذا العام؛ فبعد أن أدركت عدد من ماتوا في سبيلها، وأدركت كيف خذلتهم وخذلوها، وغدر بهما كلّ من يخشاها، لم تعد تجد مكاناً لها بيننا. انتحرت الحرّية عندما أدركت أنّها وهم، شأنها شأن الكثير من الأوهام التي تجعل الشعوب تمضي. يثورون تارةً ويخنعون تارةً أخرى، كالبحر يموجون تارةً باتجاهها وتارةً بعيداً عنها، وكالبحر كلّما اعتقدت أنّهم رسوا على شاطئها وجدتهم زبداً يتبخّر ويذوب تحت أشعّة الشمس.

 

القيم عامّة هي أيضاً انتحرت هذا العام؛ فجأةً أدركت أنّها اختراعٌ من بعض الحالمين بحياةٍ أرقى للبشرية، وأنّ الواقع، أنّ غالبية البشرية لا تريد سوى شريعة الغاب، لا العدالة تريدنا ولا نريدها، لا نحن نتعايش معها، لا بل نحاربها ما إن تطالنا، ولا هي تتأقلم مع وحشيتنا وازدواجية معاييرنا. التسامح اعتزل بعدما أدرك أنّه مجرّد شعارٍ يرفعه كلّ من يعتقد نفسه أرقى من الآخرين، لكن يدّعي أنّ رحابة صدره تسمح له بتقبّل الآخر والتسامح مع اختلافهم عنه.

 

الأخلاق؟ يبدو أنّها هجرتنا قبل أعوامٍ لا بل قرون، لكنّنا كنّا نحاول على الأقلّ أن نتمسّك بفكرتها. هذا العام الأخلاق يئست منّا فتركتنا ننهش بأعراض بعضنا البعض، نشتُم بعضنا، ونبعبع بوجه بعضنا البعض، من دون حتّى محاولة تبرير انعدامها. غالباً كنّا نرمي اللوم على الآخرين، هذا العام تصالحنا مع نزعاتنا الفاشية فبتنا حتّى لا نسعى لتبرير عنصريتنا واستعلائنا وغرورنا وفوقيتنا الفارغة.

 

وحده الأمل يأبى الانتحار ويأبى الاعتزال ويأبى الانكسار. وحدها الأحلام ترفض أن تموت، وكلّما قُتلت بُعثت من جديد ولو بعد حين
وحده الأمل يأبى الانتحار ويأبى الاعتزال ويأبى الانكسار. وحدها الأحلام ترفض أن تموت، وكلّما قُتلت بُعثت من جديد ولو بعد حين
 

ضمن موجة الانتحار، النفاق هو أيضاً انتحر؛ لم يعد أحد يبذل جهد ادّعاء الإنسانية والأخلاق، تصالحنا مع أبشع وجوهنا وأطلقنا العنان لقباحة نفوسنا، لم أكن أعتقد يوماً أنّني قد أفضّل النفاق على الحقيقة، لا ندرك قيمة بعض الأشياء إلا بعد رحيلها، كنت أفضّل النفاق.. كان أرحم.

 

المنطق؟ هل انتحر هذا العام أم منذ زمن؟ الأكيد أن ما بقي حيّاً من محاولات المنطق انتحر أيضاً هذا العام، العالم يتراقص على أكبر نزعات جنونه ومجونه، لم يعد هناك مكان لا للمنطق ولا للعقل. العقل عبءٌ في هذا الزمن، والمنطق يعيق مشروع الانهيار الكامل.

 

وحده الأمل يأبى الانتحار ويأبى الاعتزال ويأبى الانكسار. وحدها الأحلام ترفض أن تموت، وكلّما قُتلت بُعثت من جديد ولو بعد حين. وحده الأمل يرى في كلّ هذا الموت فرصةً لبناء عالمٍ جديد، أجمل، أطهر، أعقل. وحدها الأحلام تقاوم.. وتقاوم.. وستبقى تقاوم.. إلى أن ينتصر الأمل.. وكلّ عام والعالم بخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.