شعار قسم مدونات

في حب نجيب محفوظ

blogs - نجيب محفوظ
خلال نقاش حول الأدب والرواية، علق  أحد الأصدقاء أن نجيب محفوظ أسلوبه في الكتابة لا يختلف كثيرًا عن أساليب الصحف والجرائد، مردفا أن لغة محفوظ سهلة وبعيدة عن المجاز والتراكيب اللغوية هو ما يميز كتابة الأدب والرواية عن غيرها من أنواع الكتابة، لفت هذا التعليق انتباهي وحاز اتفاقي، على الرغم من ولعي الشديد بنجيب محفوظ.
 
معروف عن نجيب نشأته الفلسفية والصوفية في بدايات حياته، حيث كتب عدة مقالات فلسفية ومقالات أخرى في التصوف الإسلامي والفلسفي والمتابع لنجيب عن كثب يدرك ما لنجيب من سعة اطلاع وعمق وشغف واضح بالفلسفة والتصوف والأيديولوجيات السياسية فضلا عن الأدب العالمي بطبيعة الحال.
 
أول وعيّ نجيب تكون تحديدًا بثورة 19، وثورة 19 يُمكن القول أنها الحدث الأكثر جذرية في تاريخ مصر كله، أكثر من الإستعمار وحكم محمد علي وأكثر من كل الأحداث اللاحقة لها، فتاريخ التحديث في مصر تاريخ سُلطوي في مجمله، والحداثة في في شكلها الإجتماعي والتاريخي هى عملية دمج الفئات والقوى الإجتماعية التقليدية داخل النظام الحديث العقلاني وإعادة تشكيلها ومفصلتها داخل هذا النظام الجديد.
 
ثورة 19 كانت أول رد فعل شعبي ومقاوم للسُلطوية التي أتت بها الحداثة إلى مصر، الثورة الشعبية في جوهرها عملية حداثية بالأساس، بمعنى أنها مثل الدولة عملية دمج للجماهير داخل النظام الجديد الذي تقترحه الثورة، لكن الثورة على عكس الدولة والسُلطوية عملية دمج من أسفل لأعلى، من الشارع والميدان إلى أعلى هرم السُلطة.
 
يحكي هنا نجيب كيف كان يجوب الشوارع وهو مراهق صغير بصوته المسرسع يهتف للثورة ولمصر وللوفد وسعد زغلول، ثم جاب نفس الشوارع مرة أخرى بصوته الجهوري وهو رجل يهتف لمصطفى النحاس باشا ولجلاء الإنجليز ولدستور 23، وخلال كل هذا تشرب وجدان نجيب روح ثورة 19 وروح الوطنية الليبرالية الدستورية الناتجة عنها، وقيم المجتمع الكوزموبوليتاني التعددي المتسامح الذي عاش في مصر قبل وبعد الثورة، مجتمع كان فيه الأجانب والخواجات جزء من نسيجه وروحه وثراءه.
 
نجيب مخلص جدا لثورته وزمنه وللجمال الذى رآه وكبِر عاش في ثناياه، أغلب رواياته دارت أحداثها في مصر سواء كانت رواية اجتماعية أو رومانسية أو سياسية أو غير ذلك
نجيب مخلص جدا لثورته وزمنه وللجمال الذى رآه وكبِر عاش في ثناياه، أغلب رواياته دارت أحداثها في مصر سواء كانت رواية اجتماعية أو رومانسية أو سياسية أو غير ذلك
 

أحب محفوظ القاهرة والإسكندرية، حبًا مُوزعا بين روح ومعمار المدينة القديمة التي تنتمي للعالم التقليدي الإسلامى والأحياء التي بناها الفاطميون والمماليك وبين المدينة الحديثة الخديوية التي بناها المعماريون الأجانب وسكنتها الجاليات الأجنبية والموظفون الإستعماريون فكانت كقطعة من أوروبا على أرض مصر، عشق محفوظ هذا كله وأدرك الجمال في أهل بلده وأحياءهم وفى أعداءه والمختلفين عنه، عشق البساطة والجمال حتى الثمالة وطوال عمره المديد ظل أسيرا للحنين إلى ثورة 19 ورموزها ومجالها السياسي الواسع ومصر الدستورية المدنية الليبرالية ومجتمعها المتنوع الثري الذي قبّل العالم أجمع تقريبا في شوراعه ومقاهيه ومظاهراته.

 
بالمقابل لم يحب محفوظ الشيوعيون والإخوان المسلمين، وأي أيديولوجية شمولية جامدة لا تقبل التنوع والتناقض الدراما التى تخلقها الحياة وتسعي أن تصفيها بصيّغ تاريخانية وكلية، نجيب نفسه -بإستثناء إيمانه العميق بثورة 19- لم يذهب في أيديولوجية أو قناعة إلى أقصاها طوال حياته ولم يتعصب أبدًا لرأي تبناه.
 
لماذا نحب محفوظ و لماذا لغته سهلة إذا؟ لأننا بالأساس نحب تجربته فى الحياة ورؤيته لها ورفضه لأي أيديولوجيا أو تصور نظري عن الحياة يختزلها ويصادرها ويحرمنا منها، الحياة أعقد من أي لغة أو تصور عنها، مليئة بالدراما والثورات والحروب والحب والآسى والحنين وغير ذلك مما لا تسعه اللغة، جمعت كل التناقضات الممكنة.
 
نجيب مخلص جدا لثورته وزمنه وللجمال الذى رآه وكبِر عاش في ثناياه، أغلب روايات محفوظ التي دارت أحداثها في مصر سواء كانت رواية اجتماعية أو رومانسية أو سياسية أو غير ذلك، اخلص فيها نجيب محفوظ للواقع الذي شهده بعيّنيّه ووجدانه وللناس الذي عاش وسطهم واحبهم أو كرههم أو سخط منهم، للكلام الذي كان يسمعه أثناء جلوسه في المقهي في القاهرة القديمة أو في بهو إحدى البنسيونات في محطة الرمل بالإسكندرية ولم يرى أثناء تأليفه حاجة أبدا للغة جديدة غير تلك التي يتكلم بها الناس.
 
لم يخترع محفوظ بشر وحكايات جديدة لكنه أبدع في الوصول لحكايات الناس التي عاش معها ولم يتكلف الكتابة بلغة أدبية مميزة بل كتب بما يتكلم به الناس، واصفًا حياة الناس اليومية والعامة في مصر طوال قرنين من التاريخ كأفضل ما يُتاح لقلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.