شعار قسم مدونات

النظرة الأخيرة.. مشاعر أعظم من أن تكتب!

blogs - palestine

لا يكذب الذي يقول بأن الفلسطيني يولد عاشقًا مشتاقًا بالفطرة، فعندما نفيق على هذه الدنيا بالعادة نفيق على الذكريات والأشواق، فكل فلسطيني يولد شوقه لأرض أجداده معه ويتوارثه وقليلٌ من تنتكس فطرته، ناهيك عن مَن يستفيق على الدنيا وتذهب جل أشواقه إلى أبيه في السجن أو عمه الشهيد أو تلك الأشواق العابرة إلى من هم في الغربة والاغتراب القسري.
 

لا يوجد بيت فلسطيني يخلو من المغتربين أو قصص الاغتراب فهذا الشعب أكثر من نصفه يعيش خارج وطنه منذ عمليتي التهجير والنزوح خلال النكبة والنكسة، لكن في تفاصيل وثنايا هؤلاء الذين يعيشون ألم البعد عن أرضهم قصص آلام عميقة أخرى.

ومن الحكايات التي سمعتها من أصحابها وشهودها قصة وفاء وحب موجعة وراقية في آن واحد، بطلها لاجئ فلسطيني عاش شبابه وشيخوخته في الغربة بعيدًا عن وطنه، كان في ساعات المساء وبشكل شبه يومي ينتهز أوقات وجوده وحيدًا ليتصفح الإنترنت ويدخل إلى موقع "google earth" فانتبه له أحد أبنائه أكثر من مرة وثار فضوله ليعرف السبب فسأل والده عن الأمر فأجابه الوالد المريض بصوتٍ شاحب أعياه الفقد والحزن: منذ أن ماتت أمك في فلسطين لم أجد سَبِيلًا لزيارة قبرها في فلسطين غير هذا السبيل، وإن كان الأمر افتراضيًا إلا أنه يعني لي الكثير الذي لا أعرف تفسيره.

ثم طأطأ رأسه بالحسرة وصمت حتى ابتعد ابنه خاشعًا متألمًا بهدوء! فهذا الفلسطيني يعيش في دولة عربية وقد ماتت زوجته داخل فلسطين أثناء زيارتها لعائلتها، ولم يتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة عليها أو زيارة قبرها.

أذكر كيف منعنا القصف من المشاركة في تشييع جنازات شهداء أصدقائنا، وكيف كان هذا الألم شديدًا يوازي ألم فقداننا لهم.

لأنه يحمل "وثيقة سفر" لا جواز سفر فهو محرومٌ من التنقل أو السفر بحرية ويعيش في شبه سجن حيث إن فرص خروجه من البلد التي يسكن فيها تشبه نسبة خروج سجين من داخل المعتقلات الصهيونية محكوم بالسجن مدى الحياة، وهؤلاء المنفيون ما زالوا بمئات الآلاف على أقل تقدير ويعيشون دون أوراق رسمية تمكنهم من الحركة بحرية منذ النكبة في العديد من البلدان العربية ويعانون من الإهمال والحرمان والتهميش الذي أورثهم قهرًا شديد.

وقد ظل هذا الحنين يغالبه وينازله حتى وافته المنية وقد كان من أمانيه في هذه الدنيا القصيرة والحقيرة أن يكون قبره إلى جانب قبر من يحب فهل هذا بالشيء الكثير؟.. وظل يحاول المسير إلى ذلك إلا أن أجله انتهى قبل الوصول إلى مراده..

فيا له من ظلم وإجرام عظيم هذا الذي يفرق بين محب ومحب في الحياة وعند الموت.. وما زالت في صدري دمعات خالتي "نائلة" التي عاشت أيام مع زوجها وأبنائها حياتها الطويلة والعريضة خارج فلسطين وعندما تمكنت من العودة قبل سنوات قليلة لزيارة أهلها وأقاربها مرت بجوار النافذة التي كانت تجلس عندها جدتي رحمها الله باستمرار، وحينها سرى طيف أمها من أمامها وجرى شريط الذكريات حولها فعادت خالتي ذات الستين عامًا طفلة صغيرة تبكي بحرقة شديدة وتسأل عن أمها التي ماتت وخالتي في غربتها حيث منعها الحصار والتضييق والإغلاق الذي يعيشه الشعب الفلسطيني من زيارة أمها لعقودٍ طويلة وكانت تتمنى لو أنها استطاعت أن تراها النظرة الأخيرة وتترك على جبينها قُبلةً حلوةً ومريرة.

إن هذه المشاعر أعظم من أن تكتب؛ عرفتها جيدًا وعشتها وعشت مع أصحابها وأذكر كيف منعنا القصف من المشاركة في تشييع جنازات شهداء أصدقائنا، وكيف كان هذا الألم شديدًا يوازي ألم فقداننا لهم، وصدقًا لا أعرف السر وراء هذه المشاعر العجيبة التي تعطي كل هذه الأهمية لنظرة أخيرة، لكنه الوفاء وحب وجدانيٌ إنساني صادق، وهو نقاء السريرة، لا شك أنه أمرٌ غريب في زمن كثرت فيه الخيانة وفقدان الضمير مع البصيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.