شعار قسم مدونات

ذاهبة إليك.. بعد رصاصتين وقذيفة

blogs - woman

تنويه: هذه التدوينة تتمة لأخرى نشرت الأسبوع الماضي وحملت عنوان "قبل موتي بقليل…هذه رسالتي"، يستحسن لمن لم يطلع عليها حتى الآن العودة إليها لتوضيح الصورة الكاملة للأحداث هنا. 

من إيجمان إلى سراييفو…

 

رغم المضايقات المعتادة للميليشيات الصربية المسيطرة على معظم مخارج ومداخل العاصمة البوسنية، لم تجد المدرعة البيضاء التابعة لقوات الأمم المتحدة مشاكل كبيرة في العودة إلى قلب المدينة…

 

كان برونو، المراسل الصحفي الفرنسي الشاب، واثقا من صعوبة المهمة التي تنتظره، فهو يحمل في جيبه الرسالة الأخيرة لمقاتل بوسني دفع حياته ثمنا لحماية شرف دولته الوليدة، والوقوف في وجه مغتصب استفاد من صمت معتاد لمن نصبوا أنفسهم أوصياء علينا، وسموا أنفسهم دولا عظمى تخطط لحاضرنا ومستقبلنا دون أخذ رأينا!

 

اختلط الصراخ بأصوات الرصاص وتكسر زجاج النوافذ، وعجزت قدما برونو عن حمله، فانبطح أرضا بالقرب من جدار إسمنتي لبناية شاهقة وهو يكاد يبكي من شدة الخوف، قبل أن تلتقط أذناه صوت صفير حاد شعر بأنه يستهدفه هو

ولكن السؤال الأهم هو: كيف سيعثر على سميح، إبن الجندي المجهول، وميرلا زوجته، وهو لا يعرف عنهما أي شيء؟

لا صور، لا أسماء عائلية، لا عناوين!

 

تحسس برونو الورقة المطوية في جيبه للمرة العاشرة، وعندما توقفت المدرعة غير بعيد عن الفندق الذي ينزل فيه، ازدرد لعابه بصعوبة ثم غادرها خائفا، غير آبه بتوجيهات جنود القوات الدولية.

 

نعم، هو يقضي في البوسنة عامه الثالث أو الرابع، وأصبح خبيرا بما يمكن اعتبارها أبجديات الحرب، ولكن من قال أن الخبرة قد نجحت في إنقاذ كل من دخلوا في مواجهة خاسرة مع الموت؟

 

فندق "الهوليداي إن" الشهير، والذي يجمع معظم المراسلين والموظفين الأجانب، يطل مباشرة على شارع تنين البوسنة، الذي تحول اسمه بسرعة فائقة إلى شارع الموت، بعدما أصبح مسرحا لعمليات قنص عشوائية تنفذها العصابات الصربية، ويذهب ضحيتها المئات من الأبرياء..

 

كانت الشمس في طريقها نحو المغيب، والسكون المخيف يلف المكان بعد تحول سراييفو إلى مدينة خرائب وأشباح، لذا حسم أمره والتقط نفسا عميقا، قبل أن ينطلق راكضا بين الأحياء صوب الفندق، متوسلا للرب في سره أن يحميه، رغم أنه لم يكن في يوم من الأيام متدينا، وربما كان أقرب إلى الإلحاد، لكنها خشية الموت التي تجعل صاحبها باحثا عن الأمان الحقيقي، بعيدا عن كل القناعات السطحية السابقة، مهما بلغت صلابتها!

 

مئة متر فقط تفصله عن الأمان المزعوم، حاول أن يتجاوزها بسرعة، فأعصابه لا تحتمل المزيد، بعد كل ما عاينه من أهوال وموت متجول، هناك في جبل إيجمان.

ثم بدأ إطلاق النار من اللا مكان..

 

أصيب برونو برعب شديد، خشية أن يكون الرصاص الكثيف يستهدفه هو، ورغم تعامله الطويل مع ميادين القتال إلا أنه عجز في البداية عن الإتيان بحركة، خاصة بعدما فهم متأخرا بأنه أمام معركة مفاجئة يتم فيها تبادل الرمي بالبنادق والمدافع الرشاشة…

 

اختلط الصراخ بأصوات الرصاص وتكسر زجاج النوافذ، وعجزت قدما برونو عن حمله، فانبطح أرضا بالقرب من جدار إسمنتي لبناية شاهقة وهو يكاد يبكي من شدة الخوف، قبل أن تلتقط أذناه صوت صفير حاد شعر بأنه يستهدفه هو، فرفع بصره بسرعة إلى مصدر الصوت، لتميز عيناه (رغم ضعف الإضاءة) خيال ملثم يرتدي معطفا عسكريا ويحمل بندقية وهو يشير نحو بوابة البناية، فاستجمع برونو قواه وزحف إليها، ثم دلف إلى المبنى وصعد درجاته نحو الطابق الثالث حيث يتواجد الملثم.

 

بنادق خفيفة وأخرى متوسطة، مدافع رشاشة، مدفع طويل الماسورة وغريب الشكل، خمن برونو بأنه قد يكون مضادا للدروع، وصناديق ذخيرة هنا وهناك…

خمسة مسلحين، لم يجدوا حرجا في كشف ملامحهم التي اختلطت وسامتها بإنهاكها، فيما وجه الملثم كلامه إلى الصحفي الفرنسي قائلا:

 

– أي شيطان ذاك الذي دفعك إلى مغادرة المنزل في مثل هذا التوقيت؟ ألا تعلم بأن إجبار الصرب على مغادرة إيجمان قد دفعهم إلى تكثيف قصفهم على العاصمة؟

قلنا بأن برونو يتقن معظم أساسيات اللغة البوسنية، لذلك لم يكن فهمه لهذا الكلام مستغربا، بل النبرة التي قيل بها…

كان صوت أنثى!

 

هم برونو بالإجابة، لكن صلية من الرصاص آتية من وراء نهر ميلجاكا (حيث يحتل الصرب مواقعهم) سبقته إلى ذلك، فدفعته الملثمة -كما دل على ذلك صوتها- إلى غرفة جانبية، تاركة زملاءها يردون على مصادر النيران، وخاطبت برونو قائلة في شك واضح:

 

– يظهر لي من ملامحك أنك لست ابن البلاد، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ صحفي، أليس كذلك؟ أم تراك من جواسيس القوات الدولية التي لا تخدم بتحركاتها سوى مصالح عصابات راتكو ميلاديتش؟ تكلم!

 

وأمام دهشته العارمة، بدأت في تفتيشه بنوع من الخشونة، وانتزعت من جيبه تلك الورقة المطوية (التي لم يكن يحمل غيرها بعدما تكفلت قوات الأمم المتحدة بنقل معداته الصحفية إلى مقراتها)، وألقت عليها نظرة سريعة في البداية، قبل أن تتراخى قبضتها الممسكة ببندقيتها، وتتهاوى أرضا على ركبتيها نازعة لثامها الأسود، ليظهر وجه رائع الجمال، لم يستطع برونو تجاهل فتنة العينين الفيروزيتين اللتين تزينانه…

تخلى الفرنسي عن صمته، وتناسى كل ما يحيط به وهو يقول في لهفة:

 

– ماذا هناك؟ هل أنا محظوظ إلى هذه الدرجة؟ يبدو أنك تعرفين صاحب الرسالة!أنا مراسل حربي فرنسي أنزل في فندق الهوليداي إن، وقد عثرت على هذه الورقة المطوية في جيبه، وأنا أبحث عن زوجته ميرلا وابنه سميح لأسلمهم إياها، كآخر ما بقي من متعلقات الراحل، هل يمكنك مساعدتي في البحث؟

 

مأساة الحرب أنها لا تعترف بالنهايات السعيدة وإن انتصر الحق على الظلم والطغيان، من تسأل عنها فقدت كل شيء بعدما قتل الوحوش الآدميون ابنها ونالوا من شرفها هي في هجوم مباغت على أطراف المدينة

لم تجبه، بل حملت بندقية القنص مرة أخرى وقد غطت الدموع عينيها، وعادت إلى موقعها رفقة المسلحين الآخرين وخاطبت أحدهم قائلة:

 

– بكر، رافق هذا الصحفي إلى فندق الهوليداي إن، لا تقلق، سنحميكما من الخلف، فقط تذكر أن سلامته الشخصية مسؤوليتك أنت، مفهوم؟

 

أومأ المسلح برأسه موافقا، فقبلت هي الورقة المطوية ودستها في جيب قريب من قلبها، ثم جذبت مشط البندقية متأكدة من ذخيرتها، واندفعت بشجاعة نحو النافذة قائلة بصوت مخنوق:

 

– مأساة الحرب أنها لا تعترف بالنهايات السعيدة وإن انتصر الحق على الظلم والطغيان، من تسأل عنها فقدت كل شيء بعدما قتل الوحوش الآدميون ابنها ونالوا من شرفها هي في هجوم مباغت على أطراف المدينة، ويبدو أنه لم يعد يفصلها عن الموت بكرامة واللحاق بزوجها خالد وابنها سميح في العالم الآخر سوى مسافة قصيرة…

 

ثم التفت نحو برونو قائلة بعينين متلألئتين من أثر الدمع:

– بعد رصاصتين…وربما قذيفة تنهي كل شيء…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.