شعار قسم مدونات

الملاعب العربية من ساحات معارك إلى ملتقيات إنسانية

blogs - football

تأمل هذه المفردات "الكتيبة، السحق، انهمار الصواريخ، القذائف، ترسانة الاسلحة". هذه المفردات ليست من تقرير يصف الصراع المسلح في دولة ما ولكنه يصف احداث مباراة في كرة القدم. الرياضة هي بوابة السلام والمحبة والتسامح بين البشر، وهي لغة عالمية مفهومة في كل بقاع العالم. الرياضة واحدة من ركائز صياغة الوعي الإنساني، والفكر الراقي، وهنا يأتي دور الأماكن الرياضية في تغيير حال الإنسان العربي أخلاقيا وإنسانيا، وفكريا وثقافيا نحو الأفضل. ومن منظور التصميم فقد تبين أن هناك علاقة وثيقة تعتمد على فكرة الصياغة الذهنية أو الإدراك الذهني للمكان والحدث. ولذا نريد صياغة رؤية ذهنية تبدأ في عقل المشاهد والمتفرج من عامة الجمهور. ويعتمد هذا المنظور على أطروحات تصميمية وتخطيطية جديدة تتجاوز الفكرة البلاغية النمطية التي تتكرر في الإعلام الرياضي على أن الملاعب هي ساحات للمعارك، وتنادي بتحولها إلى ملتقيات إنسانية اجتماعية ثقافية. هذا الصياغة الذهنية البنائية تحول الملاعب إلى بوتقات لتفاعل البشر في ود وألفة، وبالقطع ستساعد في نشر رسالة تتجاوز فكرة التعصب، وتنطلق إلى آفاق من التواصل الاجتماعي الإنساني الراقي الذي تمثله الرياضة في صورتها المثلى.

 

عن طريق مناهج العمارة والعمران يمكن ان يتحول الملعب الرياضي من ساحة حرب، كما يتم التسويق له في الخطاب الرياضي الإعلامي إلى مقصد يومي لأفراد المجتمع يمارسون كل أنشطتهم مما يكون علاقة انتماء متميزة تسقط فكرة التعصب

لم تعد المدينة المعاصرة تحاور سكانها المقيمين بها فقط، وإنما تمتد لتحاور العالم في عصر القدرة الغير مسبوقة على التواصل. وجزء مهم في هذا التواصل هو الانتقال إلى مرحلة استقطاب الأخر من خلال القدرة على استضافة أحداث فنية ورياضية وثقافية تعمق فكرة التواصل والرغبة في الانفتاح على العالم. كما تؤكد على القيمة العالمية للمدينة، وتعيد صياغة عمرانها وعمارتها لتتمكن من لعب هذا الدور العالمي. ويكفي ان نرصد هنا الحدة التنافسية بين مدن العالم لاستضافة الأحداث الرياضية العالمية مثل كأس العالم او الدورات الاوليمبية. فالموثق ان المدن التي سعيت جاهدة إلى هذا المستوى من التنظيم وحصلت عليه، غيرت تقريبا من مستقبل المدينة، وتحولت أحيانا من مدينة راكدة إلى مدينة نشطة تستقطب الاستثمارات من كل أنحاء العالم في دورة اقتصادية مذهلة الحجم لم تكن لتشارك فيها لولا النشاط الرياضي العالمي الذي تمكنت من استضافته.

 

بسبب ما تعانيه الكثير من الدول العربية من مشاكل تنموية واقتصادية واجتماعية وإحساس لدى العامة بحالة من الانهزام المتتالي في بعض مقومات الحياة الأساسية كالمساهمة في الصناعة او البحث العلمي او المخترعات او نهضة التعليم او الاكتشافات في المجالات العلمية والطبية، فان الكثير من الشعوب العربية لا تجد طعما للانتصار إلا في الملاعب الرياضية. وقد تيقن الكثير من نجوم الإعلام الرياضي العربي المكتوب والمشاهد إلى هذه الحقيقية واستثمروها في بناء صورة ذهنية راسخة في عقول الشعوب تصور التنافس وخاصة في كرة القدم على انه معركة الانتصار فيها هو انتصار يلغي اي نوع من الهزائم الاخرى على الأصعدة الأخرى كالتعليم والصحة وخلافه. الجدير بالذكر أن هذه الحالة ترسخ في ذهن الإعلاميين فكرة ان الملعب هو ساحة معركة، وان هذه الساحة تستخدم فقط في حالات النزال ثم يتوقف استعمالها إلى حين معركة أخرى بين فريقين آخرين. ويستمر الإعلام بسبب رسوخ هذه الحالة في وصف اللقاءات الرياضية بتعبيرات عسكرية حربية تكثف حالة التعصب والتنافسية السلبية بين اللاعبين والجماهير. بل إن بعض الصحفيين لا يصف اللاعبين بالفريق وإنما بالكتيبة مؤكدا فكرة الصراع العسكري الحربي.

 

هذا النوع من التغييب العقلي يتطلب مواجهة ليس فقط بتطوير وعي الإعلاميين الرياضيين والمعلقين على الفعاليات الرياضية، ولكن ببناء صورة ذهنية مخالفة عن مكان التنافس، ونوع الأنشطة التي تمارس به والأدوار التي يلعبها المكان حتى في الأيام التي لا يشهد منافسات او مباريات. هذه الصورة الذهنية هي المرتكزة على أن الملعب هو في جوهره سياقا حضاريا حدائقيا صمم وبني من اجل الناس حتى يلتقوا ويتعارفوا ويطوروا سلوكهم الإنساني الراقي، وليس دفعهم إلى صراع رخيص يفقد الرياضة معناها الاكبر في غرس قيم النبل والشرف والخلق الحميد.

 

القيمة العمرانية الاجتماعية للفراغات الرياضية

تمثل الملاعب الرياضية وخاصة التي تستوعب الأحداث الأكثر شعبية مثل ملاعب كرة القدم والعاب القوى والبيسبول وكرة القدم الأمريكية حالات فريدة من التركيب المعماري والعمراني. نحن أمام مناطق ذات مساحات وتجهيزات هائلة وعادة ما تكون مرتبطة بوسائل النقل العام بالإضافة إلى توافر العديد من مسطحات انتظار السيارات المخصصة للجماهير والزوار. وبالتالي نحن أمام حالة متميزة ولكنها للأسف لا تخدم المجتمع إلا فقط في حالة إقامة الفعاليات او المباريات والتي لا تزيد عادة، اثناء الموسم الرياضي، عن مرة أسبوعيا. والأكثر خطورة أنه متى توقف النشاط الرياضي السنوي، تحولت هذه الأماكن المتميزة إلى أماكن شبه مهجورة

 

إعادة صياغة التصور المعماري والعمراني للملاعب الرياضية

تحقيق الحد من التعصب في الملاعب العربية ليس فقط هدفا يجب أن يشغل بال العاملين في الإعلام الرياضي والصحافة المطبوعة والرقمية، وإنما هو مشروع حضاري متكامل يلعب فيه أيضا أسلوب تخطيط وعمران وعمارة الملاعب والخدمات الرياضية دورا هاما

الطرح البديل هو أن جزء من تغيير هذه الحالة يتوقف على إعادة صياغة الدور الاجتماعي والثقافي والإنساني للملاعب الرياضية. فعن طريق مناهج العمارة والعمران يمكن ان يتحول الملعب الرياضي من ساحة حرب، كما يتم التسويق له في الخطاب الرياضي الإعلامي إلى مقصد يومي لأفراد المجتمع يمارسون كل أنشطتهم مما يكون علاقة انتماء متميزة تسقط فكرة التعصب وتستبدلها بارتباط عميق بين الإنسان والمكان يتجاوز اي محاولة لفرض فكرة الصراع البغيض. نقدم بعض المقترحات للتحولات المعمارية والعمرانية التي يمكن إتباعها في تصميم الملاعب في الدول العربية لتحويلها من ساحات حروب رياضية محدودة الاستعمال إلى ملتقيات اجتماعية ثقافية ترفيهية رياضية صديق للبيئة مزدهرة بالحياة والتفاعل الإنساني. من أهم هذه المقترحات ما يلي:

 

الملعب الرياضي كحديقة عامة.

الملعب الرياضي كساحة احتفالية.

الملعب الرياضي كمقصد للتسوق والترفيه.

الملعب الرياضي كنطاق للتعلم.

الملعب الرياضي كحيز للمهرجانات الثقافية. 

الملعب الرياضي كساحة رياضية للمجتمع ككل.

 

إن تحقيق الحد من التعصب في الملاعب العربية ليس فقط هدفا يجب ان يشغل بال العاملين في الإعلام الرياضي والصحافة المطبوعة والرقمية، وإنما هو مشروع حضاري متكامل يلعب فيه أيضا أسلوب تخطيط وعمران وعمارة الملاعب والخدمات الرياضية دورا هاما. أهمية التأكيد على إن كل فرصة للذهاب إلى الإستاد الرياضي هي فرصة لمقابلة الأخر والتعرف على إنسان جديد، وهي أيضا فرصة للتعلم واكتساب المعارف من خلال أبنية جديدة مثيرة للخيال والتساؤلات المبدعة.

 

إن الملاعب الرياضية الكبرى في المدن العربية يجب ان يفعل دورها اليومي والأسبوعي والشهري والموسمي، ليس فقط من خلال المباريات الرياضية ولكم من خلال تفعيل كل الأدوار الأخرى التي تساهم في تجاوز صورة الملعب كساحة للمعارك وإعادة صياغتها وتقديمها كصورة جديدة تؤكد ان هذه الملاعب هي ملتقيات إنسانية يستفيد منها كل أفراد المجتمع بمختلف فئاته وقطاعاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.