شعار قسم مدونات

في يوم المرأة.. تحية إلى روح جدتي

BLOGS - جدة
 
لم تكن جدتي "فيمينست" ولا سمعت بالمصطلح أصلاً. وهي لم تذهب الى المدرسة ولا قرأت أو كتبت يوماً، وكانت لدى إنجاز أي معاملة رسمية تبصم بإبهامها بعد التفكر والتبصر في الوثيقة كأنها تحمل ختماً ملكياً لا تخرجه إلا حين الضرورة. لم تشعر جدتي بالغبن يوماً لأنها لم تدخل المدارس وكانت نادرة في منطقتها وحكراً على ذكور العائلات المقتدرة، بل اعتبرت ذلك سياقاً طبيعياً لحياتها. لكنها في المقابل، دفعت بأمي، ابنتها الوحيدة، إلى الدراسة والإنجاز ثم العمل، وبقيت تلاحقنا حتى رمقها الأخير بتكرار عبارة "الفتاة ليس لها إلا علمها وشهادتها"، فكانت ترى أن التوفيق بين العمل والبيت أمر بديهي لا يستحق كل تلك الثرثرة والتنظير.
 

وهي، إذ كانت تنتمي إلى عائلة تملك أراض كثيرة، إلا أنها تفتحت على الدنيا فقيرة ويتيمة لأب رحل مع من رحلوا إلى "سفربلك" ولم يعد، فيما أمها أضعف من أن تحصل حق أبنائها، فبقي محفوظاً في السجلات بعيداً عن المتناول.
 

بعدما تقدم بجدتي العمر، ما عادت تقوى على الإشراف بنفسها على كل شاردة وواردة، لكنها كأي مدير مشاريع في عصرنا الحديث، كانت تطلب كشوفات يومية وفصلية، وتقارير دقيقة، وتقارن بين أقوال فريق العمل لتقييم الأداء.

جدتي هذه تزوجت جدي من دون أن تعرفه مسبقاً، تقول إنه رآها صدفة وهي لم تنتبه له، لكن حين طلب يدها لم تعارضه. ثم رحلت معه إلى بلدته، التي تبعد اليوم مسافة لا تتجاوز نصف ساعة بالسيارة، لكنها آنذاك اعتبرتها غربة حقيقية، حتى انقطعت كلياً عن زيارتها، كما انقطعت أخبار إخوتها الذين هاجروا مبكراً إلى البرازيل وما عادت تعرف عنهم شيئاً. بقي لها صورة وحيدة لهم ولأبنائهم مجتمعين في مناسبة عائلية ما، لكنها أيضاً نسيتها مع الوقت وأودعتها درج خزانة بين أغطية رأس حريرية ما عادت تستعملها.
 

جاءت جدتي إلى بلدة زوجها في عمر السادسة عشرة حيث لا أهل لها ولا عائلة. لا أصدقاء ولا أعداء. وأزعم أن ذلك منحها قوة داخلية وهامش استقلالية تمتعت به حتى آخر أيامها، وهو ما لم يعرف عن نساء كثيرات في محيطها المحافظ. فهي من حيث لا تدري، تخففت من الأثقال الاجتماعية والحسابات العائلية والمسوؤليات التي تحيط بالمرأة وتربط حركتها أو تعيق قراراتها التي لا تقتصر على شخصها وإنما تطال البيت والرزق والأبناء والزوج، وانسحب لاحقاً على قرارات كالانتخابات مثلاً. ولعلها استغلت كونها "غريبة" لتفرض شروطاً بحكم العادة لا بالتصريح والإعلان، ما كان محيطها الاجتماعي المستجد ليقبل بها لولا أنها من صلبه.
 

هكذا، كانت جدتي حين تجابه بمواقف لا ترضيها أو لا تملك لها إجابات مقنعة ترفع يدها فوق رأسها بقليل وتقول كلمتها الشهيرة "مضى". وتصمت بعدها أو تغيير الحديث معلنة إن وقت النقاش انتهى والقرار اتخذ وأصبح ماض مضى. وكانت إذا احتدم السجال في مسألة ما، لا تتورع عن إسكات محدثها بضربة قاضية فتقول "هذا مو (ليس) شغلك" لتذكر مرة أخرى إنها هي، صاحبة الصلاحيات والكلمة الفصل.

وغالباً ما كانت النقاشات والسجالات تدور حول شؤون الأرض والمحاصيل وقطاف الزيتون واستخراج الزيت واستدعاء العمال وإدارة هذه العملية برمتها، وهو ما كانت تقوم به جدتي من على كرسيها في غرفة الجلوس. فبعدما تقدم بها العمر، ما عادت تقوى على الإشراف بنفسها على كل شاردة وواردة، لكنها كأي مدير مشاريع في عصرنا الحديث، كانت تطلب كشوفات يومية وفصلية، وتقارير دقيقة، وتقارن بين أقوال فريق العمل لتقييم الأداء وتعيد النظر في كل عامل قبيل الموسم المقبل. وهكذا، لا تكاد ترتاح من دورة حتى تبدأ دورة جديدة.
 

الإحباط الممزوج بالغضب، كان حين دخل التلفزيون الملون البيت، واكتشفت جدتي مثلاً إن سميرة توفيق "بتتحمر وبتتبودر" وإن جمال عينيها وسواد شعرها البدوي ليس طبيعياً خالصاً.

والحال إن جدتي هذه، تعرفت على الحداثة وتبنت سلوكياتها من الباب الاستهلاكي العريض ساعدتها بحبوحة اقتصادية نسبية، ولكن أيضا سفر متكرر إلى مهجر الأبناء. هكذا، كانت جدتي تتأنق وتفصل فساتين تفوق حاجتها الفعلية ومناسباتها الاجتماعية، لدى خياط شهير في طرابلس لا يطرق بابه إلا العائلات الطرابلسية العريقة وبعض سيدات حمص وبناتهن. ثم أعادت بناء البيت ورصفته بالرخام الفخم متباهية به، واقتنت لمطبخها الجديد براد "وايت ويستنغ هاوس" باللون الأزرق السماوي قبل حتى أن تصل شبكة الكهرباء إلى البلدة، وهو ما تم لاحقاً في عهد فؤاد شهاب مطلع الستينات.
 

وألحقت البراد بتلفزيون "فيليبس" ذات خزانة خشبية مزخرفة فخصصت له غطاء صغيراً من الكروشيه ترفعه حين تقرر المشاهدة ثم تعيد ترتيبه من بعدها. وهي، إذ ذاك فرضت ساعات مشاهدة تتوافق مع "اللياقة والاحترام" فتعاملت مع شخصيات الشاشة كضيوف واقعيين لا يجوز استقبالهم في أوقات معينة. وظلت لوقت طويل تعتقد إنهم يروننا كما نراهم، وحين اكتشفت عكس ذلك، انتابها شيء من الإحباط والإحراج معاً، بحيث غضت الطرف عن الموضوع واكتفت بعدم ذكره مجدداً.
 

ولولا أن تعطل التلفاز مرة، وحضر من يصلحه ففتح أحشائه وصدمها بما في داخله، لما تخلت عن نظريتها تلك. أما الإحباط الممزوج بالغضب، فكان حين دخل التلفزيون الملون البيت، واكتشفت جدتي مثلاً إن سميرة توفيق "بتتحمر وبتتبودر" وإن جمال عينيها وسواد شعرها البدوي ليس طبيعياً خالصاً.
 

لم تكن جدتي "فيمينست" ولا سمعت بتحرر المرأة وحقوقها أصلاً، لكنني إذ استعيد حياتها اليوم يدهشني كم قاربت ذلك بأفعال صغيرة وبسيطة، بسلوكيات ومواقف لا أعرف مصدرها في وعيها. فيكفي أنها عاشت غرابتها على طريقتها، ولم تتوان عن ترداد عبارة "أنا حرة" بلا مبالغة ولا ادعاء.. هكذا، ببساطة كأنها تقول "صباح الخير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.