شعار قسم مدونات

الأدب الأفغاني وجدلية المنفى بين الخيال والواقع

blogs - أفغنستان
قد يكون المنفى فعلا إراديا واختيارا في ذات الآن، يلجأ إليه البعض للتحرر من القيود، خاصة تلك القيود المرتبطة أساسا بحرية التعبير والإبداع. كما أنه قد يكون فعلا إلزاميا، نتيجة تأزم للأوضاع الاجتماعية والسياسية خلال فترة حرجة، كالحرب والانقلابات الداخلية، كما هو الشأن بالنسبة لأفغانستان. فالمنفى تلك الأرض التي تُبعد الفرد عن موطنه الأصلي، ذك الجرح العميق الذي لا ينتهي أبدا، عادة ما يكون فرصة للإفصاح والكتابة والتأمل في أعماق الذات بحثا عن إجابات لمجموعة من التساؤلات الوجودية والوجدانية والإنسانية.

إن الكاتب الأفغاني جريح الحرب والظلام والصمت والمعاناة. لذا، فهو يكتب محاولا إخراج كل الصرخات التي تجتاح مخيلته، وتُحول خياله إلى فوضى عارمة ملطخةٍ بلون الدم والرماد. فالمنفى هو المنطلق نحو البحث عن مخلفات الذات بين مجموعة من الأزمنة المتقلبة والأمكنة المتحركة. إن الكاتب الأفغاني يجعل من الكتابة بوحا ونقدا وثورة على مجتمع منغلق مُتعصبِ الفكر والدين والأعراف.

ومن باب التذكير ليس إلا، فقد شهدت أفغانستان حروبا أهلية منذ نظام الحكم اليساري حتى حكم طالبان، أي قرابة خمسة وثلاثين سنة، الشيء الذي دفع العديد من الكتاب والفنانين والصحافيين والباحثين إلى مغادرة بلادهم بحثا عن بلد يضمن لهم حرية التعبير ومواصلة مشوارهم الفني دون قيد أو شرط. فقد كان من الصعوبة مواصلة الإبداع في ظل غياب الحرية، التي بدونها لا يمكن أن تكتمل عوالهم الفنية والأدبية، ونحو ذلك. وقد كان للمنفى دور جوهري في تطور الأدب الأفغاني، خاصة النجاح الذي يحققه على الصعيد العالمي. فغالبية الأدباء الأفغان يعيشون في الدول القريبة كإيران وباكستان وآخرون يعيشون في الغرب، خاصة في أمريكا وفرنسا وبلجيكا وكندا.

يشعر أدباء المهجر الأفغان الذين تعرفوا على ثقافة بلد المهجر بحجم تأثير الهجرة على الأدب أكثر من الكتاب الذين لم يتأثروا بثقافات أخرى.

إن الأديب الأفغاني تمكن من تعرية الواقع المر، الذي يعيشه المجتمع الأفغاني خلال فترة المنفى. فجل الروايات تتطرق إلى أزمة الوجود والتعصب والحرب والوحدة، والجوع، والبطالة، وعدم التمتع بحرية كافية والصمت …إلخ. بعد ثلاثة عقود من الحرب والدم في أفغانستان، نُشرت روايات متميزة تعكس عمق التجربة الأدبية الأفغانية، وتُسَلط الضوء على الواقع الدرامي المعاش في هذا البلد المنغلق كما قلنا على ذاته وتقاليده وأعرافه. لنجد أعمالا كرواية ’’ ألف شمس مشرقة’’ لخالد حسيني، و’’سنك صبور’’ لعتيق رحيمي، و’’أفغاني’’ لعارف فرمان، و’’دست شيطان’’ لعزيز الله نهفته. هذه الأعمال الأدبية جعلت من الأدب الأفغاني أدبا متميزا ومنفردا على باقي العوالم الأدبية العالمية. أدب كُتب خارج الوطن الأصلي بأنفاس الحنين ومعاناة الفراق والشوق المتكرر لزيارة الماضي القريب.

هكذا فإن المنفى تجربة واقعية عاشها الكاتب اضطراريا، لكنها فرصة للنبش في القضايا الجوهرية التي يعرفها المجتمع الأفغاني. عتيق رحيمي على سبيل المثال جعل من المنفى نافذة للتواصل مع مجموعة من الحضارات، نقطة الانطلاق للبحث عن الذات ومحاولة التواصل مع الآخر. يقول عتيق رحيمي في كتابه ’’ نزهة القلم’’: ’’المنفى لا يكتب وإنما يعاش’’، أي أن تجربة المنفى تجربة واقعية يعيشها الكاتب خارج أسوار الكتابة، لذا فمهما حاول الكتاب تخيل تجربة المنفى لن يفلح في تصوريها، لأنها تجربة وجودية يجب أن تعاش. لكن الجميل في الأدب الأفغاني، هو أن تيمة المنفى دائما ما تكون سببا في التطرق إلى باقي القضايا. فالسفر والهجرة يلعبان دورا مهما في تطوير الحس الفكري والخيالي لدى المبدع، والمؤلف الناتج عن تجربة المنفى عادة ما يتميز بالعمق من حيث اللغة والإحساس والوصف والتخيل.

إن روايات خالد حسني تتناول قضايا التفوق العنصري، والظلم الاجتماعي والتعاسة ومشكل الأعراف والدين، كما يناقش عتيق رحيمي القضايا المذهبية، وقضايا المرأة، وخاصة القضايا التي تعد من المحرمات في الثقافة الأفغانية من قبيل الجنس والدين وحرية المرأة والتقاليد المتشددة. لذلك، فتجربة المنفى في فرنسا دفعت بالكاتب إلى التطرق لهذه القضايا بحرية متجاوزا بذلك كل الطابوهات.

ربما يرى البعض تجربة المنفى في كتابات عتيق رحيمي على أنها تجربة خيالية، ناتجة عن الاصطدام بمجموعة من الثقافات واستعمال لغة المنفى، خاصة الطريقة التي يصور لنا بها الواقع الأفغاني المعاصر. ربما يكون هذا الطرح صحيحا، فالكتابة في الأساس نتاج لخيال خصب يستمد طاقته من تجربة وجودية معاشة تركت بصمة أو جرح في أعماق الكاتب. فالمنفى في الأدب الأفغاني واقعي وخيالي، واقعي عندما يتطرق الكاتب إلى القضايا المجتمعية ويكشف أزمته الوجودية المرتبطة أساسا بأزمة الهوية والحنين إلى الأرض (أرض الطفولة).

إن تجربة المنفى جعلت من الأدب الأفغاني، أدبا لا مثيل له لا من حيث اللغة أو الوصف أو السرد. ومن ثمة فإن الأدب الأفغاني؛ أدب المفاجأة والتمرد والتحرر والصمت المتكرر، والجرح الصارخ والفوضى الملطخة بالدماء.

ومن هنا، فإن الواقع متجدر في تجربة المنفى ولا أحد يمكنه أن ينفي ذلك، لكن الخيال حاضر أيضا في هذه التجربة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فالخيال يظهر من خلال تيمة الحلم والكوابيس والوصف المتصوف للأشياء ومحاولة تحرير الجسد عن طريق اللغة. فالأدب الأفغاني يستمد قوته من حاضر فوضوي معاش ومن خيال خصب متطور بسبب الاصطدامات المتكررة مع الثقافات الأخرى، خاصة من الناحية الأدبية والفنية.

ففي رواية ’’ ملعون دوستيوفسكي’’ لعتيق رحيمي، رواية كتبت في فرنسا، لكنها تتطرق للواقع الأفغاني على الطريقة الروسية، كما فعل ذلك دوستيوفسكي في روايته ’’الجريمة والعقاب’’. هنا يختلط الواقع بالخيالّ، وذلك من خلال استحضار أسلوب غربي في الكتابة لكشف ما يعيشه الفرد الأفغاني. فالكاتب يتخيل نفس مصير شخصيات دوستيوفسكي لشخصياته، وهنا لابد أن يختلط الواقع بالخيال دون أدنى شك.

وقد سبق وتحدث الروائي الأفغاني المقيم في السويد عارف فرمان على أن تجربة المنفى أو الهجرة تركت تأثيرا قويا على الكتاب والأدب الأفغاني، حيث يتبنى أدباء المهجر اليوم نظرة متعددة الأطراف أو متقاطعة. ويشعر أدباء المهجر الأفغان الذين تعرفوا على ثقافة بلد المهجر بحجم تأثير الهجرة على الأدب أكثر من الكتاب الذين لم يتأثروا بثقافات أخرى.

فخالد حسني يعيش خارج حدود أفغانستان، لكن أعماله متجذرة في التراب الأفغاني. فالقارئ لا يحس أن الكاتب بعيد عن أصله وموطنه، وهنا يلعب الخيال الخصب دورا كبيرا في تقريب المسافات بين مخيلة الكاتب وموطنه الأصلي. إن تجربة المنفى لا يمكن أن تنسي الكاتب سنوات الطفولة التي عاشها في بلاده، كما أنها تزيد من وقع وحدة الألم لدى الكاتب، والناتج بالأساس عن البعد اليومي عن الأرض التي أنجبته. فإذا رجعنا إلى روايات خالد حسيني، فهو يروي المصائب التي تعاني منها أفغانستان وكأن العالم لم يكن على علم بها. يصف كل شيء بطقة وبنفس الإحساس الذي عاشه، مما يجعل من كتاباته مادة مميزة ومنفردة يستهويها القارئ منذ القراءة الأولى.

إن تجربة المنفى جعلت من الأدب الأفغاني، أدبا لا مثيل له لا من حيث اللغة أو الوصف أو السرد. ومن ثمة فإن الأدب الأفغاني؛ أدب المفاجأة والتمرد والتحرر والصمت المتكرر، والجرح الصارخ والفوضى الملطخة بالدماء، والدمع والرماد، أدب يستمد دمائه من تجربة المنفى، التي فرضت على الروائيين الأفغان بيئة جديدة، ولغة جديدة، وهوية جديدة على الجسد والروح. إنه باختصار، أدب المنفى، فهو نتاج للاضطرابات الاجتماعية، والسياسية، والطبيعية، وغيره في الدول المتخلفة، والحروب الأهلية في العالم بعامة، وفي أفغانستان بشكل خاص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.