شعار قسم مدونات

مواطنو الخوف والمدن المنكسرة الممزقة

blogs ثورة

في السنوات الست الماضية، لم تمثل أي من مكونات المدينة العربية قيمة فارقة كما فعلت الفضاءات العامة. فقد كانت تلك الميادين الوعاء الذي احتضن الشباب ثم باقي أفراد المجتمع في تعبيرهم الجماعي عن الرفض. هذا الرفض الذي تم تكثيفه في جنبات الفضاءات العامة حتى تحول إلى ثورات كاسحة أسقطت أنظمة تجاوز تمسكها بمقاليد الحكم عدة عقود. قاومت هذه الأنظمة الأطروحات الثورية مقاومة شرسة، وكان العنف في الميدان شعارا لحقبة سوداء في تاريخ المجتمعات وفي سردية المدينة العربية.

 

كيف تبلورت ظاهرة العنف العمراني في المدينة العربية من خلال ميادين هامة؟ وهل تحولت المدن العربية من مدن ثائرة إلى مدن منكسرة ممزقة يتجول بها مواطنون خائفون خاضعون؟ إن الثورات هي تسونامي التغيير وهي التحولات العميقة والعنيفة الناتجة عن الإفراج المفاجئ للطاقات البشرية التي تخلق موجات المد الزلزالي المطالب بالتغيير. هذه الموجات التي تغمر القوى السياسية السائدة والهياكل التنظيمية، وتستبدلها في فترة قصيرة نسبيا من الزمن مما تسبب في الاصطدام الناتج عن المقاومة الشديدة للتغيير.

 

ولذلك فان هذه التحولات العميقة المفاجئة يكون من المستحيل التنبؤ بها. ولكن هذا لا يتناقض مع حتمية حدوثها مهما تأخر الوقت بسبب المظاهر التي تتراكم وأهمها فقد الأمل، وسيطرة الظلم، وانعدام الحرية. بتسليط الضوء على البعد المكاني في المنظومة الثورية، نكتشف أن الثورة لم تتبلور فقط في فضاءات محددة من المدينة مثل الميادين، ولكن الواقع يوضح التجسيد الفراغي للظلم الاجتماعي واللامبالاة العمرانية التي كانت ملمحا أساسيا من أنظمة تقود المجتمعات العربية. ولذلك، نلمح كيف ترتبط الثورة ارتباطاً مباشرا بالسياسات المكانية والممارسات العمرانية التي كانت أحيانا ظالمة وعنيفة تجاه المجتمعات المحلية المسحوقة.

 

إن للبيئة المحيطة تأثيرا في تشكيل شخصية الفرد وسلوكه وأنماط المعيشة، إضافة للظروف المكانية التي هي من أهم المؤثرات الخارجية في تشكيل شخصية الإنسان، سواءً من تأثيرات إيجابية كالتطور، أو سلبية كالعنف العمراني

إن التحول الذي يشهده العالم ترافقه مظاهر ديناميكية تتمثل بالنمو السكاني، والتحضر المتنامي، وتأثيرات العولمة وانتشار التكنولوجيا الرقمية. والواقع إن تفاعل هذه الظواهر يؤثر على أمن أكثر من سبعة بلايين بشر هم سكان عالمنا الحالي. وعلى المستوى العمراني، تشكل المدينة مسرحا لهذا الصراع وهي المكان الأكثر تحدياً للأمن الإنساني. إن العنف في المناطق العمرانية وفقدان الأمن وعدم الإحساس به، يؤثر بدون شك على نوعية وطبيعة الحياة في عالمنا الحالي التي أدت إلى التفكك الاجتماعي والمكاني داخل المدينة. إن الأمن هو أحد متطلبات الحياة التي تساهم في إعلاء نوعية العيش فيها.

 

ومن الموثق أن للبيئة المحيطة تأثيرا في تشكيل شخصية الفرد وسلوكه وأنماط المعيشة، إضافة للظروف المكانية التي هي من أهم المؤثرات الخارجية في تشكيل شخصية الإنسان، سواءً من تأثيرات إيجابية كالتطور، أو سلبية كالعنف العمراني. ومن أبرز مظاهر العنف العمراني السلوك البشري الذي ينتهجه بعض السكان وينتج عنه عنفا عمرانيا يشوّه البيئة المبنية في المدينة ويقلل من رصيد نوعية الحياة المتميزة.

 

تبرز ظاهرة الظلم العمراني في رسمية العنف حين تتبنى الدولة، وبحجج التطوير مثلاً، إزالة أحياء يفوق عدد سكانها تعداد دول كاملة. تبرز حالة القاهرة التي قدرت الدراسات أن عدد من سيتم إخلائهم لتنفيذ بعض المخططات يتجاوز الأربعة مليون نسمة. كما كشفت تداعيات الربيع العربي وخاصة في الفضاءات العامة، موقف النخبة من ظاهرة العنف بأنواعه ومنها العمراني. لقد تبلور موقف المواطن الأناني والمستفيد من الانظمة الديكتاتورية التي جعلته يقبل العنف وامتهان الإنسانية وخنق الحياة العامة في سبيل أن تستمر مصالحه ومكتسباته. كما تبين عمق العلاقة بين الثورة والظلم العمراني والعنف العمراني. وخاصة من جانب الظلم العمراني فقد مكنت الثورة العديد من القطاعات على محاولة رد هذا الظلم باستخدام أساليب قد توصف بالعشوائية الفوضوية ولكنها كانت مبدعة خلاقة.

 

كان الفضاء العام في المدينة العربية هو المكان الذي انطلقت منه واحتضنت جنباته أهم ثورات هذا الربيع. إلا أن الحكومات وبسبب الفواصل الزمنية ما بين الشرارة الأولى في تونس وانطلاقها إلى مصر واليمن وسوريا تنبهت إلى خطورة اللقاء بين المجتمع والفضاء العام. تأمل ما حدث في البحرين في قدرة النظام ليست فقط على محاصرة المجتمع والفضاء ولكن في إزالته وطمسه بالكامل من النسيج العمراني للمدينة كما حدث في حالة ميدان اللؤلؤ الذي أزيل بالكامل بعد فض اعتصام المتظاهرين. حتى النصب التذكاري التاريخي الذي أقيم بمناسبة اجتماع القمة الخليجية في المنامة عاصمة البحرين، تم تدميره وتسويته بالأرض في دقائق. كانت الحكومة في البحرين واعية تماما لأن الفضاء العام هو طرف المعادلة الأصعب في منظومة الربيع العربي، وبالتالي إجهاض علاقة المجتمع بالفراغ العام هو ضمان جوهري لإطفاء جذوة الثورة.

 

لقد شهدت الكثير من المدن العربية مثل القاهرة ودمشق وطرابلس وتونس وصنعاء حدة الصراع من أجل فضاء للتعبير والثورة. وتدريجيا تحولت الميادين من مسارح الثورة إلى مسارح العنف. ورُصد النضال من أجل السيطرة على الفضاءات العامة، والسعي إلى فهم أهميتها بالنسبة لظهور جمهور ثائرة.  كان الميدان مساهما، إبان الربيع العربي، في صياغة مشهدية العنف لأن ما حدث في ميادين مدن الربيع العربي من عنف جسدي من قبل سلطات الأنظمة المهددة لاقى انتشاراً غير مسبوق.

 

لقد ساعدت الشبكة العنكبوتية التي تجعل التواصل الاجتماعي لحظي في انتقال متسارع للعديد من الصور الدالة التي خلقت وعيا مغايرا لكل ما حاولت الدولة وأجهزتها وخاصة الإعلامية تسويقه ونشره للرأي العام وخاصة من خلال القنوات الرسمية. في مصر مثلا تتعدد حالات الصور الدالة التي أحدثت دفقا ثوريا ومنها: صورة رش الثوار بمدافع المياه أثناء تأديتهم للصلاة على كوبري قصر النيل، صورة ضرب وتعرية فتاة محجبة سحب أو إلقاء الشهداء بجوار أكوام القمامة بمعرفة أفراد الجيش.

 

تبلور الرفض والاعتراض الناعم في معارض تشكيلية ولوحات كاريكاتورية ولافتات اعتراضية وأغاني جماعية وحلقات أداء مسموع أو مرئي لفنون تجريبية منطقها هو العنف الناعم والرفض الهادئ

لقد امتلكت الميادين أثناء الربيع العربي القدرة على احتواء تصنيفات مختلفة من العنف. رصدنا العنف الإيجابي وفكرة النضال العنيف أحيانا من أجل امتلاك الفضاء العام. وهو ما نبع من منطلق الفهم العميق لدوره في التأكيد على الاستمرارية الثورية الرافضة للنظام. كما تبلور العنف الناعم والمقاومة المبدعة في الميادين. فبنفس قدر ارتباط الفضاءات العامة في الأذهان بالعنف الصلب، إلا أن ما حدث في حالات فضاءات مدن الربيع العربي يثير التساؤل.

 

إن العنف الناعم كان ملمحا من ملامح صياغة الوجود الثوري في تلك الفضاءات. تبلور الرفض والاعتراض الناعم في معارض تشكيلية ولوحات كاريكاتورية ولافتات اعتراضية وأغاني جماعية وحلقات أداء مسموع أو مرئي لفنون تجريبية منطقها هو العنف الناعم والرفض الهادئ. لقد أكد استعمال الثوار للفضاءات العامة على قدرة التعبير الفني والرمزي على الاحتجاج.

 

ومن هنا تتبلور أسئلة محورية أبرزها: كيف يكثف العزل والخوف المجتمعي في الفضاءات العامة؟ كيف يساهم الفراغ العام الخالي من العنف والمستقبل للثائر والرافض في إعادة بناء مفهوم المواطنة وتأسيس إطارا أكثر عدالة للانتماء والتفاعل المجتمعي؟ هل نجح العنف في ترويض ثورة سياسية ثقافية حضرية؟ أم أنه ألقى ضوء على دور الفراغات العامة في تأجيج الثورة واستمراريتها؟  هل هناك مكان لفضاءات ديمقراطية لا تعاقبك على فقرك ولا تحتفي بثرائك. وهي فراغات لا تنتقي، وتسمح للجميع بالتفاعل والتداخل والتعبير عن النفس وعن الجماعة الإنسانية وترفض فقط مواطني الخوف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.