شعار قسم مدونات

المعماري حسن فتحي تلميذ الفقراء

blogs - hassan fathy

بقدر معرفتنا الكاملة في العالم العربي بالسِّيَر الذَّاتية لمن يُسمَّوْن بالفنَّانين ولاعبي كرة القدم، فإننا نقف دائما على مسافة لا نهائية من معرفة العقول التي شكَّلت علامات مميزة في المسار المعرفي والإبداعي والإنساني لمجتمعات الشرق الأوسط. كنت أمارس مع تلاميذي في العمارة والعمران، تجربة لطيفة عندما أطلب منهم ذكر عشرة أسماء لمعماريين عرب بارزين أو لاعبي كرة. كانوا يجدون وهم دارسو العَمارة والعمران صعوبةً عظمى في القائمة الأولى بينما الثانية تكتمل في أقل من دقيقة.

 

من هذا المُنطلق أجدُ نفسي مهتما بإلقاء القليل من الضوء على معماري ومفكر وفيلسوف أسَّسَ توجهاً فارقاً في مسار العَمارة المصرية والعربية والعالمية. هو العالمي شديد المحليّة المِعماري حسن فتحي (1900ـ1989). جانبٌ من تميز حسن فتحي يتجاوز فكرة المبنى المنفرد لينطلق إلى فلسفة التصميم والتخطيط والبناء للمجتمعات المتكاملة وخلق روح التفاعل والتشارك والتعاضد بين أفراد هذا المجتمع في تحقيق أحلامهم المشتركة لحياة إنسانية تحفظ كرامتهم مهما كان مستوى فقرهم. كان حريصا على بناء المجتمعات أكثر منه على تشييد المباني وهو من قال أن شخصاً واحداً لا يستطيع أن يبني بيتا ولكن عشرة أشخاص يمكن أن يبنوا عشرة بيوت.

 

جزءٌ من تفرُّد حسن فتحي كان تمرده على هذا الاستغراق والاستسلام ودعوته إلى التعلم من الواقع المحلي المتواضع في مظهره، الثريّ في عُمق أفكاره ومقاصده.

وُلدَ حسن فتحي وترعرع في مناخ اجتماعي ثقافي عائلي أرستقراطي، وتخرج من جامعة "فؤاد الأول" بالقاهرة عام 1926 في حقبة سيطرة أوروبية قيمية مفاهيمية استعمارية على السياق المصري والعربي. كما عاصر حسن فتحي مناخا مهنيا وأكاديميا مستغرقا ومستسلما لمبادئ وتعاليم المدارس الأوروبية والطرز الغربية في العمارة والعمران. ولكن جزءاً من تفرده كان التمرد على هذا الاستغراق والاستسلام ودعوته إلى التعلم من الواقع المحلي المتواضع في مظهره، الثريّ في عُمق أفكاره ومقاصده.

 

وفي الوقت الذي كان زملاؤه وأساتذته يتطلعون إلى لندن وباريس لنقل ما يمكن استخدامه في السياق المصري والعربي، كان فتحي يزور قرى النوبة منحنيا متواضعا منفتحا ليفهم منطقاً بديعاً للبناء المتوافق مع البيئة والمناخ والعادات والتقاليد ومنطق الحياة وروح المجتمع. عظمة حسن فتحي في تماسكه وقدرته على رفض الانسياق لعالمية غير ملائمة، والتواضع أمام محلية تستحق التفكر والتأمل بل والتعلم منها.

 

لقد تميَّز فتحي بذكاءٍ فريد وبإنسانية راقية مكَّنتهُ من التواضع أمام الفِطري البسيط والاستماع للبدائي تاريخيّ التجارب ليتعلم منهُ دُروساً ملهمة. هذه الدروس التصميمية والبنائية والفنية والاجتماعية والثقافية مكَّنتهُ من صياغة توجُّهٍ عالمي بلوره في كتابه الشهير "عَمارة الفقراء" الذي تحوَّلَ إلى مرجعية أساسية لكل مدارس العَمارة في أوروبا وأميركا بعد أزمتها مع الحداثة التي أغفلت الإنسان والمكان والتاريخ وأعلن موتها في أدبيات العمارة والعمران منذ الستينيات.

 

تخيلوا قرابة سبعة عقود تفصل بين أفكار حسن فتحي الفارقة في مفاهيم عَمارة الفقراء وبين المعماري التشيلي "أليخاندرو آرافينا" الحائز على جائزة «بريتزكر» عام 2016 ومنسق "بينالي" العَمارة فينيسيا في الدورة السابقة. الأخير تحول إلى نجم وهو نفسه يعترف بارتكازه الفكري المفاهيمي على أفكار وكتابات حسن فتحي بينما الأخير هُدمت أعماله وأُهُملت وهُوجمت وتُرِكَتْ أطلالاً تشهد على مصداقية المقولة الشهيرة: "لا كرامة لنبيٍّ في وطنه."

 

تأمل توثيق حسن فتحي لأفكاره عن أهمية عُمق العلاقة بين المعماري وبين البيئة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى: "البيئة هي الظروف المحيطة التي تؤثر في النمو والحياة، وفيما يتعلق بالعَمارة يمكن القول بأن هناك بيئتين، الأولى هي البيئة الطبيعية التي هي مِن صُنعِ الله سبحانه وتعالى، والثانية هي البيئة الحضرية التي هي مِن صُنع الإنسان، وعلى المعماري أن يحترم البيئتين فيما يضعه فيهما من منشآت، فإذا لم يحترم الأولى التي هي مِن صُنع المولى عزَّ وجل كانت خطيئة، وإذا لم يحترم الأخرى كانت قلة احترام لمن سبقوه شريطة أن يكون هؤلاء قد احترموا البيئة التي هي مِن صُنع الله."

 

ملمحٌ فارقٌ أيضاً من ملامح شخصية حسن فتحي المبهرة؛ هو أنه لم يكترث لمقاومة الرافضين من أقرانه من المهنيين والأكاديميين والرسميين بسبب أصالة الفكر وعُمق الإيمان ومصداقية المبدع. لقد حُرِمَ مِنَ المشروعات والتقدير، بل حُرِمَ من دخول بعض الجامعات المصرية التي كان أساتذتها يرونَ في أفكاره تهديداً لعُروشهم الكلاسيكية المستوردة.

 

بعد كل هذا الرفض والمقاومة بدأ تقدير السياق المحلي والإقليمي لحسن فتحي فقط بعد تقديره العالمي من الاتحاد الدولي للمعماريين ومِنْ منظمة "الاغاخان" للعَمارة الإسلامية ومع تحول أفكاره وكتاباته إلى مناهج في مدارس العَمارة والعمران في أرقى جامعات العالم. هنا فقط أدركنا أن بيننا مبدع عربي يستحق أن نستمع إليه، ولكن الوقت كان قد سبقنا حيث استهلك فتحي في سنوات نضال ومقاومة طويلة أنهكته.

 

لم ينجح تلاميذ حسن فتحي في لعب أدوار مؤثرة في تطوير عمارة المجتمعات الفقيرة المهمشة في مصر والعالم العربي واكتفى الكثير منهم بتصميم فيلاّت الشواطئ الأنيقة للأثرياء باستخدام طراز عَمارة الفقراء!

عذوبة سجن المرجعية الشكلية

إن الفهم الحقيقي لإنجاز حسن فتحي يجب أن يتجاوز محدودية المبنى إلى آفاق الرؤية والفلسفة التي طرحها والتي ناضل من أجلها نضالا طويلا ومُجهدا يمكن قراءة فصولٍ منه في كتابه "عَمارة الفقراء" فهو بنى فقط مالا يزيد عن 2% من أفكاره. ومن ثم فإننا يجب أن نميز بوضوح ما بين حسن فتحي كمرجعية تشكيلية وبين حسن فتحي كمرجعية فلسفية. لقد استعذب الكثيرون سجن الإشكال وتجنَّبوا تحليل الأفكار. وفى إطار هذا الفهم نعتقد أن الإساءة إلى حسن فتحي وتقليص دوره جاءت من تلاميذه أكثر مما جاءت من أعدائه.

 

تمتَّعَ التلاميذ بسجن المرجعية التشكيلية التي أنتجوا من خلالها عشرات المشروعات المنفصلة عن الإطار الفلسفي لحسن فتحي والتي تكررت بصورة سرطانية في التجمعات السياحية في شرم الشيخ والغردقة والساحل الشمالي حتى تحولت الى موضة ومرجعية شكلية لبيوت الأثرياء. حقَّاً ما تزال إشكالية دور تلاميذ حسن فتحي في العَمارة المصرية والعربية المعاصرة قضية مثيرة للخلاف والجدل فبينما يميل البعض إلى اتهامهم بالتكرار والتقليد المباشر لإنتاج أستاذهم دون محاولة للتجديد أو التطوير، فإن البعض الآخر يثني على إنتاجهم بدعوى توافقه مع البيئة على المستوى البنائي والتشكيلي والمناخي.

 

إلا أن التتبع الأمين لجهد كل من تتلمذ على يد حسن فتحي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يثير القلق الشديد لأنهم وباستثناءات غير مؤثرة نهلوا فقط من المرجعية الشكلية لأستاذهم حسن فتحي ولم يصابروا من أجل تطوير المرجعية الفلسفية. لم ينجح تلاميذ حسن فتحي في لعب أدوار حقيقية مؤثرة في تطوير عَمارة وعمران المجتمعات الفقيرة المهمشة في مصر والعالم العربي واكتفى الكثير منهم بتصميم فيلاّت الشواطئ الأنيقة للأثرياء باستخدام طراز عَمارة الفقراء!

 

ألا يجب أن نتوقف عن القراءة البصرية لحسن فتحي والتوجه إلى قراءه أفكاره وفلسفته وجعل الفقير صاحب الكرامة والتاريخ والإبداع الشعبي، محور اهتمامنا ومنطلق تفكيرنا كمعماريين وعمرانيين ومخططين؟ ألا يجب التوقف عن إطلاق لقب "عشوائي" على كل فعل يقوم به الفقراء من أجل مأوى يحفظ الحد الأدنى من كرامتهم الإنسانية؟ لقد آن الأوان ومع ازدياد معدلات الفقر في مصر والعالم العربي أن ندرك أهمية مفاهيمية وليست شكلية سطحية محدودة لأفكار الرائد حسن فتحي الذي فكَّر وأبدع وتعلَّم وعلَّم من أجل عَمارة الفقراء في الوقت الذي كان الأخرون يعاقبونهم على استمرار وجودهم على قيد الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.