شعار قسم مدونات

ثورة الشعراء ضد السيد الرئيس!

blogs - Mauritania
 
احتار كثيرون في تفسير عبارة العالم الشهير آلبرت آينشتاين الخالدة؛ "الخيال أهم من المعرفة"، ليس لأن المعنى غامض بالفعل ولكن لأن قائلها هو آينشتاين، الذي يعتبر أحد أهم الأسماء، – إن لم يكن أهمها على الإطلاق – العاملة في محراب المعرفة باعتبارها العلم الخالص.

هل كان آينشتاين يتناقض مع نفسه، واهتمامه الشخصي عندما يعلن اعترافه بأن الخيال أهم من المعرفة؟ أم أنه يؤكد أهمية المعرفة القصوى باعتبارها نتاجا حقيقيا وواقعيا للخيال؟


لعلها المرة الأولى التي يتداعى فيها الشعراء في بلد ما إلى ما يشبه الثورة الحقيقية ضد الحاكم بسبب ما رأوا فيه إهانة للشعر والشعراء.

يملك صاحب النسبية من الثقة بالنفس والعلم المحض ما جعله يؤكد مقولته تلك، ليبرهن من حيث لا يدري على أن الكون لا يمكن أن يحلق في فضاء البقاء إن فقد واحدا من جناحيه؛ فبالخيال تصنع المعرفة، وبالمعرفة يستمر البشر بعمارة الوجود.

لكن ما توصل إليه آينشتاين في تأمله العلمي داخل وخارج مختبره الفيزيائي، توصل إلى نقيض آخرين، هكذا بالصدفة والعشوائية وبمحاولة الهروب من مشاكل البلاد والعباد، قفزا إلى الأمام، ومنهم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، الذي تسبب مؤخرا بتظاهرة غضب من نوع خاص قادها ضده الشعراء، ورثة الخيال، انتصارا للشعر وللخيال وللمعرفة أيضا، وفقا للمفهوم الآينشتايني الدقيق.


لعلها المرة الأولى التي يتداعى فيها الشعراء في بلد ما إلى ما يشبه الثورة الحقيقية ضد الحاكم بسبب ما رأوا فيه إهانة للشعر والشعراء.


حدث هذا قبل أسابيع قليلة في موريتانيا، التي اصطلح على تسميتها دائما ببلاد المليون شاعر، إشارة إلى كثرة الشعراء وتميزهم وبراعتهم البلاغية، واعتزازهم بتراث أمتهم الشعري، لكن يبدو أن السيد الرئيس تجاهل كل هذه السمعة التاريخية الملتبسة جغرافيا ببلاد شنقيط الخالدة شعراً، عندما قلل مع سبق الإصرار من أهمية الشعر خصوصا وما اصطلح على تسميتها بالعلوم الإنسانية عموما.

أما أصل الحكاية التي تحولت إلى خبر ثم إلى وسم في موقع تويتر، حوّله الشعراء الغاضبون بدورهم إلى كعبة لمعلقات الشعر، فيعود إلى تصريحات رئيس موريتانيا التي أشار فيها، أن "الجامعات باتت تخرّج آلاف الشعراء والأدباء، وذلك أصبح يشكّل عبئاً على البلاد".

طبعا كان من الممكن جدا أن تقبل تلك الإشارة باعتبارها مجرد هفوة لغوية لا يقصد منها إلا التعبير عن كثرة حملة شهادات العلوم اللغوية والإنسانية، مقارنة بقلة حملة شهادات العلوم البحتة مما يخيل بتوازن القوى الضرورية في سبيل تقدم البلاد.

ولكن ما قاله الرئيس ذكر الشعراء بسابقة، وربما بسوابق، له على هذا الصعيد مما يجعل ما قاله يندرج تحت لافتة خفرات القلب التي تفضحها زلات اللسان أحيانا، فمن حق الرئيس الموريتاني وأي رئيس آخر في أي بلد آخر، بل ومن واجبه أيضا، أن يشخص الداء الذي يرى أن بلاده تعاني منه تمهيدا للمساهمة في توفير الدواء اللازم للعلاج، لكن ما فعله السيد محمد ولد عبد العزيز، لم يكن تشخيصا للداء إنما إلقاء للسبب فيه على ما لا علاقة له به.

ثم إن التعبير قد خانه تماما وهو يحاول بيع الماء في حارة السقايين، ويهاجم الشعراء في عقر أبياتهم الشعرية، والأسوأ من هذا أنه وهو رئيس البلاد المشهورة بشعرية أبنائها منذ القدم، طعن ربما من حيث لا يدري تلك الصفة الأيقونية الخالدة لموريتانيا كهوية وثقافة وانتماء عربي أكيد.

تحول الشعر والشعراء إلى أزمة وإلى سبب للأزمة، وكأن البلاد التي تقدمت في الشرق والغرب لم تتقدم إلا بعد أن تخلصت من الشعر والشعراء

لقد كان بإمكانه مثلا أن يشير إلى المرض الذي تعاني منه أغلب بلدان العالم النامية، وهو قلة الاهتمام بدراسة العلوم الطبيعية المحضة، مقارنة باهتمامها بدراسة العلوم النظرية أو الإنسانية من دون الطعن بتلك العلوم الإنسانية.

كان بإمكانه انتقاد اختلال الميزان بينهما، دون أن ينسى وقوع مسؤولية ذلك من عاتق الحكومات إلى عاتق الشعوب، ولحظتها لن يكون أمام الشعراء مبررا للشعور بالانتقاص أو الدونية، أما وأن يحمل الشعراء المساكين وزر تأخر البلاد وأنهم بقصائدهم أصبحوا عبئا، فهذا غير مفهوم ولا منطقي، لا في بلاد المليون شاعر ولا في أي بلاد أخرى.

خاصة وأن مسألة كهذه لا تتعلق بموريتانيا ورئيسها وشعرائها وحسب وإنما هي نظرة عامة اعتاد عليها البعض كسلا عن إنتاج أفكار جديدة حول الأزمات التي تعاني منها البلاد هنا أو هناك، وتمنعها من اللحاق بركب التقدم العالمي على صعيد كل شيء تقريبا.

أما الجديد الغريب في الحالة الموريتانية، فهو تحول الشعر والشعراء إلى أزمة وإلى سبب للأزمة، وكأن البلاد التي تقدمت في الشرق والغرب لم تتقدم إلا بعد أن تخلصت من الشعر والشعراء على الطريقة الأفلاطونية، مع العلم أن أفلاطون نفسه صاحب فكرة طرد الشعر والشعراء، كان من أهل "الشهادات" الإنسانية لا العلمية، وهي مفارقة أخرى تؤكد مقولة آينشتاين وتمد لسانها لنظرية السيد الرئيس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.