شعار قسم مدونات

"الدولة الإسلامية".. ذلك المفهوم الغامض!

blogs الدولة الاسلامية

يَرجع استعمال مقولة "الدولة الإسلامية" إلى كتابات الشيخ حسن البنا (اغتيل 1949م) وعبد القادر عودة (أُعدم 1954م) اللَّذَين شكلت كتاباتهما مَتنًا تأسيسيًّا ثم تواترت بعدهما الكتابات مُعَدِّلةً ومُطَوِّرةً، وإن كان تعبير "الدولة الإسلامية" يَرد للمرة الأولى – فيما نعلم – في عنوان كتابٍ لعبد الوهاب خلاف سنة 1923م.

 

ويَرد تعبير "دُولة" مرة واحدة في القرآن، وتدور دلالته اللغوية حول معنى المداولة، وقد تَجنّب الفقهاء الأوائل استعمال "دَولة" في كتاباتهم الأولى، ففيما يخص الأرض أو الرقعة الجغرافية استعمل الجغرافيون تعبير "الإقليم"، وفي مسألة صلاة الجمعة وغيرها استعمل الفقهاء تعبير "المِصْر"، وفي المجال السياسي استعملوا تعبير "دار الإسلام"، وفيما يخص الهيئات السياسية استعملوا تعبيرات "الخلافة"، و"الإمامة"، و"الولاية"، ولكن المؤرخين – فيما بعد – أدخلوا مصطلح "الدولة" في سياق الحديث عن "السلطة السياسية للتنظيمات القبلية القوية التي استطاعت السيطرة على مؤسسات السلطة.

 

وبالعودة إلى الرسائل الإدارية المبكرة المتعلقة بالدولة، والتي كُتبت على أوراق البَرْديّ، والنقوش والنقود، أمكن لبعض الباحثين إدراك شكل الدولة التي قامت بأنها "نظام سياسي معقد"، وقد درسها "فْرِدْ دونر" في بحث نُشر سنة 1986م، حدد فيه "الدولة" بأنها "بناء سياسي ينطوي على مجموعة من المؤسسات السياسية، ويرتكز على تصور للسلطة التشريعية مبني على فكرة العدل.

 

عرف التاريخ السياسي للإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نظام الخلافة بوصفه شكلاً للحُكم، والخلافة في التفكير الإسلامي المبكر كانت هي الناظم للأمة والجماعة، والقائمة على المشروع العالمي لهما

فالدولة على ذلك – بواسطة مؤسساتها وأيديولوجيتها التشريعية – تنظم علاقات القوى المختلفة في المجتمع، وتضعها في إطار كبير، وتجعل لسلطتها هي المكانةَ العليا بين سائر القوى في المجتمع. ومؤسسات الدولة التي تمكنها من بسط سلطة القانون وحفظ النظام السياسي سالمًا هي: المجموعة الحاكمة، والجيش والشرطة، والسلك القضائي، وإدارة الضرائب، وبعض المؤسسات الإضافية"، وقد توصل دونر إلى أن "الدولة" كانت واضحة المعالم منذ خلافة عبد الملك بن مروان (65-86هـ) وأنه كان هناك دولة على الأرجح منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان (41-60 هـ)، وإن كانت هناك دلائل على أن الدولة سبقت خلافة معاوية.

 

وقد عرف التاريخ السياسي للإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نظام الخلافة بوصفه شكلاً للحُكم، والخلافة في التفكير الإسلامي المبكر كانت هي الناظم للأمة والجماعة، والقائمة على المشروع العالمي لهما، وقد استمرت حتى مطلع القرن الرابع الهجري إلى أن فوجئ الفقهاء بظهور الدولة السلطانية، وهي ظاهرة جديدة تمت شَرْعَنتُها فيما بعد (ولذلك أُلفت كتب "الأحكام السلطانية").

 

لم يتطور الميراث الفقهي السياسي بل توقف عند حدود الخلافة أو الإمامة، وقد نشأ الاهتمام الخاص بالكتابة الجديدة في الفقه السياسي في سياقين اثنين:

الأول: سياق التعليم والتدريس مع عبد الوهاب خلاف الذي كان يدرّس في مدرسة القضاء الشرعي ووضع سنة 1923م كتابه "السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية" ونشره محبُّ الدين الخطيب سنة (1931) مُنبِّهًا في مقدمته إلى أن "علاقة الإسلام بنظام الدولة وأصول الحكم قلّما أُفردت بالتأليف قبل اليوم"، ووصف الكتاب بأنه "فريد في بابه". ثم جاء محمد يوسف موسى (ت1963م) فأعدّ دروسًا لطلبة الدراسات العليا في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، صاغها في كتاب "نظام الحكم في الإسلام"، وقال: إن التأليف فيه "مادة جديدة لم يقم بدراستها على نحو مفصل أحد من قبل".

 

والثاني: مع منظري الإخوان المسلمين تحديدًا، وفي هذا السياق تختلف النبرة والرؤية، فهذه الكتابات تأخذ طابعًا سجاليًّا مع الفكرة العلمانية، وتلحُّ على مسألة الدمج بين الدين والدولة.
 

ولكن هذه الكتابات لم تخرج – في بِنيتها الكلية ومفاهيمها – عن تصورات الخلافة والإمامة التي خطّها الفقهاء الذين سبقوا نشوء "الدولة الحديثة"، مع تعديلات طفيفة أو اجتهادات جزئية لم تكن لتمسّ أصل التصور ومبناه، وإن اضطر الكثيرون إلى إجراء تعديلات جزئية ولفظية أحيانًا لإسقاط الخلافة على الدولة الحديثة، خصوصًا فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية بعد انقسام "دار الإسلام" الواحدة – التي تحتكم إليها أطروحة "الخلافة" – إلى دول عديدة.

 

وفي سياق المزاوجة بين الخلافة والدولة تَجَاهل هؤلاء الكتّاب الخوض في مفهوم الدولة عامةً أو "الدولة الإسلامية" خاصةً، بدءًا من الشيخ حسن البنا وعبد القادر عودة وانتهاءً بالشيخ يوسف القرضاوي وهو الذي ينشغل كثيرًا بتحديد المفاهيم والتعريفات في كتبه الأخرى! وعدمُ تحديد مفهوم للدولة الإسلامية أدى إلى غموضه والتباسه بمفاهيم الدولة الحديثة، ولذلك اندفع نزيه نصيف الأيوبي (سنة 1992) إلى القول: إنه ليس في الفكر السياسي الإسلامي مفهوم محدد للدولة.

 

وتَرجع إشكالات أطروحة "الدولة الإسلامية" إلى جملة أمور ساهمت في إرباك المفهوم وتعقيده:

أولها: المقايسة على مفهوم الدولة الحديثة (الأوروبي منشأً)، وإعادة تشكيل المحتوى التراثي للفقه السياسي في قوالب غربية مستعارة لإثبات أن هذه الدولة بعينها أنشأها الإسلام، وخصوصًا في سياق السجال مع الخصوم، ومن هنا نجدهم يلجؤون إلى الاقتباس الانتقائي بغرض المحاججة فقط؛ دون إدراكٍ للازدواجية الناجمة عن ذلك، أو الارتباك المفهومي الناتج عن توليفات متغايرة؛ لأنها منتزعة من مرجعية وبناء مختلف كليًّا عن المرجعية الإسلامية التراثية والتاريخية.

 

ثانيها: إعادة إحياء مفاهيم السياسة الشرعية والأحكام السلطانية كما عرفها التراث الإسلامي، ومحاولة تكييفها وتقديمها بصيغة "الدولة الإسلامية" في سياق الصراع الأيديولوجي، لا يتغير فيها إلا بعض الألفاظ، فالخليفة يصبح رئيسًا، واختيار أهل الحل والعقد للخليفة يصبح اختيارًا للشعب؛ لأنهم مَن ينوب عنه، إلى غير ذلك من التلفيقات.

 

الفكر الإحيائي كان مهجوسًا بفكرة الدولة التي تتوج المشروع، وحين يتحدث عن الدولة فهو يتحدث عن المشروع نفسه وهو تطبيق الشريعة أو تطبيق أوامر الله، وهي النزعة الظاهرة بقوة في كتابات البنا وعودة ثم سيد قطب

وثالثها: الحرص الشديد على إيضاح تَفَرد "الدولة الإسلامية" المطروحة، ويحرص هؤلاء الكتّاب على تعريف الدولة بمعالمها ومميزاتها وليس بمفهومها وشكلها، واللافت أنهم يختلفون في إيراد ذلك وتذهب بهم التأملات مذاهب شتى قد أوضحتها في دراستي المنشورة عن "الوسطية الإسلامية وفقه الدولة" (مجلة "تبين"، المركز العربي، الدوحة، عدد9، 2013).

 

غير أن مشكلة "الدولة الإسلامية" لا تقف عند حدود غموض المفهوم، وكيفية بنائه وموارده، بل تشمل رؤية منظّري "الدولة الإسلامية" لفكرة الدولة أساسًا ووجه الحاجة إليها، وهنا افترق الفكر الإصلاحي (الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر) عن الفكر الإحيائي (البنا وتياره) في مسألة الدولة، فالفكر الإصلاحي اعتبر الدولة أداةً، وكان مشغولاً بالتغيير التدريجي والتراكمي من خلال تجديد المفاهيم والوظائف والأدوار والممارسات، ومن ثم أراد رفاعة الطهطاوي أن يفتح وظيفة الدولة على آفاق جديدة هي المصالح العمومية، وقدمت التنظيمات العثمانية تطويرًا لجهاز الدولة من خلال فكرة المؤسسات أو التنظيمات، فالفكر الإصلاحي أراد تجديد مشروع الدولة عن طريق تجديد وظائفها بحيث تتلاءم مع تحديات الحداثة التي طرحتها الهجمة الأوروبية.

 

أما الفكر الإحيائي فقد كان مهجوسًا بفكرة الدولة التي تتوج المشروع، وحين يتحدث عن الدولة فهو يتحدث عن المشروع نفسه وهو تطبيق الشريعة أو تطبيق أوامر الله، وهي النزعة الظاهرة بقوة في كتابات البنا وعودة ثم سيد قطب، فهم يعتنقون أيديولوجيا مشروع وليس فكرة دولة، ومن هنا لاحظ رضوان السيد أنه ما تَحَدث أحد من الإسلاميين في الخمسينيات والستينيات عن تنظيمات الدولة أو دستورها أو قانونها. والدولة في فكر الستينيات الثوري أدنى إلى أن تكون تنظيمًا تغييريًّا وليس سلطة بالمعنى المتعارف عليه، واختلف الأمر بعض الشيء في الثمانينيات إذ ظهر بعض الاهتمام بالآليات السلطوية للسلطة المؤقتة عن طريق المشروع، وكثر الحديث عن الشورى التي اعتُبرت عماد النظام الإسلامي، ولكنها بقيت سلطةً ولم تصل إلى الحديث عن "دولة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.